يمكن تصنيف الأجسام البشرية اليوم إلى نوعين رئيسيين: الأجسام المهملة والتي لم يعد بالإمكان إصلاحها، والأجسام المعتنى بها والتي يمكنها، نظريًا، أن تفي بالوعود.
الأجسام المهملة هي أجسام خرجت من السباق بطبيعة الحال. وهي تاليًا لم تعد قابلة للعرض، ولم يعد بإمكان أصحابها أن يتعاملوا معها بوصفها كلًا واحدًا لا يتجزأ
الأجسام المهملة هي أجسام خرجت من السباق بطبيعة الحال. وهي تاليًا لم تعد قابلة للعرض، ولم يعد بإمكان أصحابها أن يتعاملوا معها بوصفها كلًا واحدًا لا يتجزأ، إذا ما أرادوا الاستمرار في تعريض أجسامهم للعرض. يمكن في هذه الحال أن يكون جزء من هذا الجسم أو عضو من أعضائه قابلًا للعرض والإبراز والإعلان. لكن الجسم ككتلة متراصة لا يعود قابلًا للتشكل وفق ما تفرضه قوانين التشكل المعاصرة.
معظم هذه الأجسام التي خرجت من السباق تعيش في الظل والتعقيد الذي يحيط بها من كل جانب. صاحب مثل هذا الجسم يحتاج أن يطلق خطابًا معقدًا وخاصًا وشخصيًا يسرد فيه سيرة جسمه وما آل إليه. والناظر إلى هذا الجسم وواصفه يحتاج أن ينشئ لغة معقدة ومتعددة المراتب والطبقات لوصفه. فلا يكون الوصف الرياضي الحسابي ممكنًا مع مثل هذه الأجسام. كأن يقول المتحدث هذا الجسم جميل، إذ إن هذه الصفة تنطبق على أجسام محددة بدقة وعناية، ولا تنطبق صفاتها على أجسام تشمل زوائد أو تعاني من نواقص من أي نوع. الجسم الجميل في الوصف هو الجسم القابل للتخيل السهل والمباشر، والذي يأتي من دون أي جهد. الأجسام التي اُستعملت وعاشت تخرج من سياق الأجسام الجميلة وتستدعي اللغة لوصفها، والأرجح أن المجتمعات الحديثة لا تملك الوقت لاستعادة اللغة.
العلاقة مع اللغة اليوم، وفي كل المجتمعات هي علاقة مصطلحات جاهزة. عليك أن تتلفظ بهذه العبارة المحددة إذا ما صادفت جارك أمام باب المصعد، ويجدر بك أن تلقي التحية المتواطأ عليها ما أن تهم بإبلاغ البائع بما تريد شراءه. وإذا كنت تعتزم البحث عن صديقة أو صديق تمضي ليلك معها أو معه، فعليك أن تجيد التعبير المتفق عليه لتنجح في مسعاك. ليس ثمة مفاجآت: هذه الفتاة التي تنتعل كعبًا عاليًا وتنورة قصيرة هي فتاة مستعدة لمغامرة ما، الأخرى التي ترتدي ثيابًا رياضية ليست في هذا الوارد. والمحادثات التي تدور بين هؤلاء الغرباء الذين يستعدون للتلاقي لليلة واحدة أو بضع ليال، محسوبة سلفًا: هذه العبارة تعني الرفض، وتلك تعني القبول. وهذا التعبير هو إعلان رغبة بالآخر، والتعبير الآخر يعني أنك لست مهتمًا، وتريد من الآخر أن يدعك وشأنك.
في المجتمعات الحديثة المستعجلة والسائلة، لا تنمو اللغات. بل تتصحر على نحو مفزع. وعليك أن تتقن الكودات المناسبة لتجري محادثة مع الآخر. هذه الكودات ليست موجودة في القواميس، ولا يمكن نبشها من الكتب بطبيعة الحال.
تصحر اللغات يعني أن مستخدميها لا يغوصون عميقًا في المعاني والدلالات. لكنهم أيضًا لا يختارون أغراضهم من التنوع والكثرة. لا يسعك أن تكون غريبًا ومستغربًا، هذه وصفة مضمونة لأن يدعك الآخرون وشأنك. عليك أن تشبه أقرانك كلهم، كما تتشابه أكياس الباستا على رفوف السوبر ماركت. في هذه الحال، قد يحدث أن يختار شخص ما، يشبهك في سعيه وأحواله، التواصل معك. والحق إن المجتمعات الحديثة التي تفتقد إلى العمق لا تعوضه بالتنوع. ذلك أننا جميعًا نشبه بعضنا على نحو يحجب وجوهنا، فيما تفتقر اللغة التي نتواصل من خلالها لأي تنوع أيضًا، كما لو أننا جميعا نطلق النغمة نفسها التي يطلقها جهاز الآيفون حين نتلقى مكالمة ما.
في المجتمعات الحديثة المستعجلة والسائلة، لا تنمو اللغات. بل تتصحر على نحو مفزع. وعليك أن تتقن الكودات المناسبة لتجري محادثة مع الآخر
لكن الجسم الموضوع قيد التداول ليس جسمًا معرّفًا. إنه الجسم في طور التحول. الجسم الذي يشبه وعدًا باكتماله في وقت ما. التمارين الرياضية والحميات الغذائية الظاهرة على الأجسام قيد التداول، لا تقول إن صاحب الجسم راض عن حال جسمه. على العكس، الخطاب الذي يعرضه الجسم الرياضي والمعذب بالتجويع، يفيد أولًا أن هذا الجسم سيتغير في المستقبل القريب وهو ما زال يغذ سيره الحثيث نحو الكمال. الجسم المنظور في المجتمعات المعاصرة هو الوعد بجسم متكامل في المستقبل القريب. وهو وعد لن يتحقق أبدًا، لأن الرحلة إلى الجسم الكامل تواجه دائما بعائقين: العائق الأول يتعلق باستحالة تصور صورة للكمال الجسماني. ذلك أن كل إنجاز على هذا الطريق يمكن أن يعقبه إنجاز آخر. والعائق الثاني يتعلق بالزمن. ذلك أن وقت الجسم البشري ما زال محدودًا، وذات يوم سيكتشف صاحب الجسم والناظرون إليه، في وقت واحد، أن الجسم المعاين أصبح في طور انحداره نحو العجز والموت.
هذا الانحدار في حد ذاته هو ما يصنع الحدود بين الأجيال ويعلّم معالم الأعمار. فمعالجة الوجوه بالبوتوكس وتساقط الشعر بالزرع هي علامتنا أن هذا الجسم بات شائخًا. والوجوه المعالجة بعمليات التجميل هي الوجوه التي تلخص مآل كل هذه الأجسام الساعية إلى الكمال. فخضوع الجسم والوجه لعمليات تجميلية يعني أن هذين، الجسم والوجه، قد وصلا إلى غايتهما النهائية في هذا العالم الذي تتصحر فيه اللغات ويحتضر فيه التخيل. في هذه المرحلة يصبح الجسم موقوفًا ولا يعود قادرًا على التعبير: يعجز أن يعبر عن مرضه وألمه، ويعجز أن يعبر عن فرحه وسعادته. إنه جسم موقوف كجسم تمثال يتحرك. لا يتغير ولا تستطيع الأنواء أن تحول في مساره. جسم ببعدين، وهو لهذا السبب يعجز أن يكون جسمًا انفعاليًا. فيتحول إلى جسم رقمي بلا مشاعر على الإطلاق.