ينطلق فرايزر إيغرتون في كتابه "الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المُقاتلة" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات 2017، ترجمة فادي ملحم) من تحديده لماهية السلفيّة المُقاتلة التي تتطلّب عملية تفسيرها الوقوف مطوّلًا عند العنصرين الدينيّ والسياسيّ ودراستهما باعتبارهما من العناصر المُهمّة في تركيبتها. وعلى الرغم من أنّهما لا يكفيان لتفسير هذا النوع من التشدُّد، إلّا أنّه ينبغي أخذهما على محمل الجدّ في ظلّ اعتماد الكثير من الخبراء في مجال السلفيّة المُقاتلة عليهما، لا سيما العنصر السياسيّ الذي يُحيل إلى سرديات سياسيّة مُتعلِّقة بمعاناة المسلمين واضطِّهاد الأمّة الإسلاميّة.
السلفيّة المُقاتلة هي عبارة عن تدابير دفاعيّة لحماية المجتمع الإسلاميّ من الاعتداءات الخارجيّة التي تكون غربيّة بالضرورة
والاعتماد على هذه السرديات السياسيّة التي تستدعي ما تعرّض ويتعرّض لهُ المسلمون في عددٍ من البلدان الإسلاميّة، يقود الباحثين في هذا المجال إلى تعريف السلفيّة المُقاتلة بأنّها عبارة عن تدابير دفاعيّة لحماية المجتمع الإسلاميّ من الاعتداءات الخارجيّة التي تكون غربيّة بالضرورة، خصوصًا وأنّ التصدّي للغرب (المُعتدي) يُعتبر الهدف الأساس للسلفيّة المُقاتلة التي تُفهم في هذا السياق باعتبارها ردّة فعل عسكريّة مُباشرة على اعتداءات مُختلفة، ممّا يعني أنّ هذه الاعتداءات، وفقًا للتفسير السياسيّ، هي ما تسبَّب بظهور السلفيّة المُقاتلة.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟"
وعلى الرغم من رواج هذه المُقاربة، إلّا أنّ اعتمادها وحدها من دون نظرة تحليليّة نقديّة يقود بحسب إيغرتون إلى سوء فهم لطبيعة عمليّة بناء الهويّة السلفيّة، الأمر الذي يجعل من شرح السلفيّة المُقاتلة انطلاقًا من عدد التدخّلات/ الاعتداءات العسكريّة الغربيّة غير المُبرَّرة غير مُمكن لأسبابٍ عديدة، لعلّ أهمّها اقتصار اهتمام السلفيين المُقاتلين على عدد قليل نسبيًّا من الصراعات التي يكون ضحيّتها مسلمون، مُقابل تجاهلهم لصراعاتٍ أخرى، واعتماد اللوم المُستمرّ لسياسة الغرب والغربيين أداة لتفسير الحالات الفرديّة التي لا تدخل في إطار السرديّة السياسيّة المذكورة أعلاه، خاصّةً أنّ السلفيين المُقاتلين لا يهتّمون إطلاقًا بالحوادث الفرديّة، وإنّما بالسرد العام لمعاناة المُسلمين.
يُضيف فرايزر إيغرتون إلى هذه الأسباب تعامل السلفيين المُقاتلين مع معاناة المُسلمين باعتبارها ما يُجيز لهم الردود العنيفة فقط، دون أن يذهبوا أبعد من ذلك، فالأكثرية العظمى من هؤلاء "تنأى بنفسها عن التورّط في أي نوع من الأعمال السياسيّة، وتعتمد سردية السلفيين المقاتلين الكبرى، والعنف الشديد المُرافق لهذه السرديّة، من دون الانخراط في أي جهد للتخفيف من معاناة الأمّة" (ص 28). أمّا السبب الأخير فيتمحور بحسب إيغرتون في أنّ التسلسل الزمنيّ للحوادث التي يُفترض أنّها، وفقًا للتفسير السياسيّ، المسؤولة عن ولادة السلفيّة المُقاتلة، لا يُقدّم إلّا القليل من الدعم لهذه الفكرة.
والنتيجة أنّ هذا الأسلوب في تفسير السلفيّة المُقاتلة لا يمثِّل إلّا طريقة واحدة في مقاربة أو مُشاهدة هذه السلسلة المتنوّعة من الحوادث كما بيّن المؤلّف الذي انتقل إلى دراسة التفسير الدينيّ لهذه الظاهرة الذي يعتمد على ادّعاءات المُقاتلين بأنّ ما يُحرِّكهم ويُحفِّزهم على هذه المُمارسات العنيفة هي التعاليم الإسلاميّة، وهي الادّعاءات التي بنى عليها البعض الفكرة القائلة بأنّ الإسلام يتضمّن تعاليم تدعوا إلى العنف ضدّ الآخرين غير المؤمنين، وأنّ السلفيّة المُقاتلة بهذا المعنى ليست إلّا تطبيقًا لهذه التعاليم.
لا يتّفق المؤلّف مع هذا الطرح، ويبني معارضته له على إمكانيّة تفسير الآيات التي يستند إليها السلفيون المُقاتلون في تبريرهم لأفعالهم بشكلٍ مُختلف تمامًا عن الطريقة التي تُفسِّر عبرها داخل السلفيّة المُقاتلة، الأمر الذي يجعل من البحث في النصوص والتعاليم الدينيّة للحصول على تفسيرات مُباشرة وثابتة عن الإرهاب، الأسلوب التحقيقيّ غير المُفيد، والسبب وجود الكثير من الدعوات التي ترفض العنف إلى جانب تلك التي تدعو إلى العكس تمامًا، ليتبيّن للباحث هنا أنّ دور الدين يقع في السرديّة التي تُصاغ وفقًا "لأشكال الفهم السياسيّ الذي يريده المُقاتلون" (ص 37).
البحث في النصوص والتعاليم الدينيّة للحصول على تفسيرات مُباشرة وثابتة عن الإرهاب غير المُفيد، لوجود الكثير من الدعوات التي ترفض العنف إلى جانب تلك التي تدعو إليه
إلى جانب هذه التفسيرات التي تعتمد على دراسة العناصر الدينيّة والسياسيّة، ثمّة مناهج أخرى لدراسة الإرهاب تتمثّل في "الخلل النفسيّ" و"الاغتراب"، وهما منهجان يشوبهما العجز والقصور وفقًا لإيغرتون الذي أشار إلى أنّ العديد من الدراسات التجريبيّة التي اُجريت على أعداد معقولة من الإرهابيين المُعتقلين بيّنت أنّه لا وجود لأي اضطراباتٍ نفسية عندهم، ممّا يعني أنّ الادّعاءات القائلة بأنّ هناك استعدادات نفسيّة مسبقة للإرهاب، لا تحظى إلّا بالقليل من الدعم. أمّا بالنسبة إلى المنهج الثاني المُتمثّل في الاغتراب داخل المجتمع الذي يعتمد عليه عدد كبير من الكتّاب لفهم هذه الظاهرة وشرحها، يقول إيغرتون إنّه لم يوضّح معناه ولا الأثر المُحتمل الذي يُسبِّبهُ.
اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو رمان.. سيرة مختصرة للسلفية الأردنية
يُبيّن الكاتب هنا وجود شقّان رئيسيان في عملية التنظير لمبدأ الاغتراب في السلفيّة المُقاتلة، وهما الفرديّ والبنيويّ. يقوم الأوّل على فكرة عدم رضا الفرد واستيائه، بالإضافة إلى فشله في المجتمع، الأمر الذي يتمخّض عنه حالة من الاغتراب تعتريّ الفرد وتجعله عرضة للسلفيّة المُقاتلة التي تُقدّم لهُ ملاذًا بل ومُجتمعًا بديلًا، وتُوفّر لهُ أيضًا فرصة للانتقام من هذا المجتمع من خلال تشريعها لاستخدام العنف. ويُشير إيغرتون هنا إلى أنّ اختيار السلفيّة المُقاتلة يُعتبر "خيارًا طارئًا أو يحصل بالمصادفة؛ ذلك أنّ منظّمات أخرى بإمكانها القيام بالدور نفسه. فاختيار هذا الفرد المُستاء أو ذاك، النازية أو السلفيّة المُقاتلة أو الشيوعيّة، إنّما يعود إلى رواج كلّ من هذه العقائد في موسمها أو وقتها المُلائم، وليس إلى ما تتضمّنه فسلفة هذه العقائد من قدرة على الإقناع" (ص 49).
أمّا بالنسبة إلى نظريّة "الاغتراب البنيويّ" التي تحظى بحسب الباحث بدعمٍ ملحوظ يتجاوز دعم النظريّة الأولى، فإنّها تُركّز بشدّة على فكرة الاغتراب الجيليّ ضمن جيل مُعيّن، لا سيما أنّ السلفيّة المُقاتلة تُشدِّد على جذب فئة الذكور الشبّان إلى صفوفها. وبينما يذهب البعض إلى إعادة سبب هذا الاغتراب بشقّيه إلى الرفض أو الصدّ العرقيّ الذي يُعاني منه المُسلمون في الغرب، تذهب فئة أخرى إلى القول بأنّ السبب يتمثّل في التمييز والحرمان الاقتصاديّ، ووفقًا لهذه المقاربة، تُثبت السلفيّة المُقاتلة فاعليتها، إذ إنّها "تُقدّم هويّة إلى أشخاص يتساءلون عن الهويّة الخاصّة بهم، بعدما شكّك فيها الآخرون وازدروها" (ص 63).
ويُحدِّد فرايزر إيغرتون مُشكلة هذا النهج في غموض توظيف فكرة الاغتراب ذاتها، إذ إنّ تعريف "الاغتراب" على نحوٍ غير مضبوط ودقيق يخلق مُشكلة مُتعلِّقة بتفسيرات هذا الشعور وعلاقته بالسلفيّة المُقاتلة، لا سيما وأنّ من يستخدمهُ نادرًا ما يوضِّح ما الذي يريد قولهُ أو وصفهُ حين يُطبِّقهُ على ظاهرة السلفيّة المُقاتلة. ولا يقصد المؤلّف هنا أنّ "الاغتراب" لا يشكّل أحد العوامل التي يُمكن أن تُساهم في التشدّد، وإنّما الإشارة إلى أنّ استعمالاته لا تُظهر ماهيته وكيفية عمله وتأثيره. وإذا لم يكن هناك فهم واضح لكيفية استخدامه، فإنّه يتحوّل بالضرورة إلى مُصطلح غامض فاقد لأيّ معنى، وتتحوّل مُحاولات تفسير أي شيء بناءً عليه وانطلاقًا منه إلى جهدٍ لا يُفسِّر أي شيء على الإطلاق.
وفي سياق مُحاولاته لفهم السلفيّة المُقاتلة، يتحدّث إيغرتون عمّا يسمّيه "المخيال السياسيّ السلفيّ"، ويحدِّد المقصود بـ"المخيال السياسيّ" بقوله إنّه حقل منتظم من الممارسات الاجتماعية، ونوع من العمل، وإطار للتفاوض، وأساسًا لكلّ أنواع المجتمعات، بالإضافة إلى اعتباره حقيقة اجتماعيّة. ولكن ما هي العوامل التي تُسهِّل على الأفراد بناء المخيال السلفيّ المُقاتل؟ يُجيب إيغرتون: "المخيال السياسيّ السلفيّ يشتدّ حين يتخيّل المُجاهد نفسه مدافعًا عن المُسلمين في أنحاء العالم، أي في المعركة التي يشنّها زملاؤه المُقاتلون من مانشستر إلى مقديشو. ويتكوّن المخيال السياسيّ ويصير فاعلًا عندما تجتمع حوادث عالميّة منوّعة، وتتداخل مع حوادث محليّة. وأصبح هذا الأمر ممكنًا بسبب تضافر قوى وأوضاع خاصّة في هذه المرحلة الراهنة من الحداثة المعولمة" (ص 82).
تُثبت السلفيّة المُقاتلة فاعليتها، إذ إنّها "تُقدّم هويّة إلى أشخاص يتساءلون عن الهويّة الخاصّة بهم، بعدما شكّك فيها الآخرون وازدروها"
الحداثة المُعولمة هذه تُشكِّل إلى جانب الشبكة العنكبوتيّة وتكثيف العلاقات الاجتماعيّة الفرصة التي تسمح للمخيال السياسيّ بالعمل بطريقةٍ فاعلة في السلفيّة المُقاتلة. ويذكر الباحث هنا أنّ هناك شرطين من شروط الإمكانيات التي أثرت تأثيرًا كبيرًا في المخيال السياسيّ لدى السلفيين المًقاتلين، وهما حركة الانتقال ووسائل الإعلام، إذ يؤثّر الشرط الأوّل في تبلور هويّة هؤلاء المُقاتلين لأنّها "تعرّضهم لمجموعة أكبر من الاحتمالات التي يمكن أن تؤثّر في مخيالهم السياسيّ" (ص 89)، بينما يأخذ الشرط الثانيّ على عاتقه المهمّة نفسها باعتباره شرطًا أساسيًّا للسماح للمخيال السياسيّ بتأدية دور أكبر في الحياة السياسيّة.
اقرأ/ي أيضًا: "دموع بيضاء ندوب سمراء" لروبي حمد.. كيف خانت النسوية البيضاء النساء الملونات؟
إضافةً إلى ذلك، يعتبر إيغرتون أنّ هذين الشرطين شكّلا نوعًا مُعيّنًا ممّا يسمّيه "سياسة الحنين" التي يُعرّفها بأنّها "ليست موجّهة إلى شيء كان قائمًا ويجري تذكّره عبر الأجيال، بل هي حنين إلى سياسة خياليّة، بعض عناصرها حقيقيّ" (ص 99)، وهي حال السلفيّة المُقاتلة. وهنا يُشير إلى أنّ السلفيّ المُقاتل، باعتباره نتاج المخيال السياسيّ، لا يعتبر "أنّ الأمّة من وحي الخيال. تأتي فكرة الأمّة، وهي مركزيّة في مشروع السلفيّة المُقاتلة، من وهم يقود إلى حنين، لكنّه حنين بلا ذاكرة" (ص 100)، لأنّ التصوّرات السياسيّة للسلفيين المُقاتلين في الغرب "ليست حنينًا إلى عالم تركوه وراءهم، بل هي إعادة تخييل لعالم لم يشاهدوه من قبل، وليس موجودًا إلّا في مخيّلتهم الجمعيّة" (ص 115).
ولكن ما المسؤول عن عمليّة التخييل هذه؟ يُجيب الكاتب بأنّها وسائط المعلومات الشاملة التي يُحدِّد دورها الرئيسيّ في تكوين الوهم لدى السلفيّة المُقاتلة المعولمة من خلال قدرتها على بناء مجتمع الأمّة الخياليّ وتعزيزه من خلال تعزيز مكان الفرد فيه. ويرى إيغرتون هنا أنّ هذه الوسائط تُساعد في تصوّر المُسلم الغربيّ لحظة اتّحاده مع مجموعة متنوّعة ممّن يُعتبرون شركاءه في الدين، أي أولئك الذين يخوضون الحرب نفسها في العالم. كما أنّها في الوقت نفسه ومن خلال إتاحتها للسلفيين فرصة التواصل مع مُتعاطفين آخرين، تشكّل "نوعًا من المجتمع الافتراضيّ، وشعورًا بالوحدة والانتماء إلى جماعة وقضيّة" (ص 128).
هذا الانتماء الذي تُشكِّلهُ وسائط المعلومات الشاملة، سبقهُ شعور بعدم الانتماء الفعليّ، عند السلفيّ المُقاتل، إلى منطقة أو إقليم أو أيديولوجيا. وهذا ما تحتاجهُ السلفيّة المُقاتلة بحسب المؤلِّف، ممّا يعني أنّ هذه الظاهرة بمعطياتها تُشكِّل هويّة بديلة تُنهي حالة عدم الانتماء إلى هويّة سابقة، أو الفشل في الانتماء إليها، بالإضافة إلى أنّها تجعل من الحيّز المكانيّ عند السلفيين المُقاتلين مُشتقًّا من فكرة الأمّة التي تُمثِّل هويّة دينيّة عابرة للحدود الوطنيّة ورافضة لأن يكون الإقليم حدودًا للهويّة.
الأمّة من وحي الخيال. تأتي فكرة الأمّة، وهي مركزيّة في مشروع السلفيّة المُقاتلة، من وهم يقود إلى حنين، لكنّه حنين بلا ذاكرة
ويُشير فرايزر إيغرتون في هذا السياق إلى حركة الانتقال أو الهجرة من مكانٍ إلى آخر باعتبارها قادرة على إنتاج حالة من الانفصال عن المكان لدى أولئك الذين ينتقلون، أي المكان الأوّل الذي يُترك باتّجاه آخر غيره، الأمر الذي يدلّ على شعور بعدم الانتماء الذي يُنشئ بدوره مُرادفًا أو موازيًا أيديولوجيًا بُمساعدة وسائط المعلومات الشاملة، خاصّةً بعد أن أصبح التقارب الجغرافيّ غير ضروري للوصول إلى تقارب اجتماعيّ، لأنّ هذا التقارب باتت تُشكِّله الأمّة التي تُعتبر الأساس الأيديولوجيّ للسلفيين المُقاتلين في الغرب، لا سيما في إطار علاقتهم العدائية معه باعتباره عدوهم المفترض.
اقرأ/ي أيضًا: مبضع "الذاكرة والتاريخ" في القرن العشرين الطويل: معالم النقد عند وجيه كوثراني
ويقول إيغرتون هنا إنّ هذه الأمّة الناشئة في خيال المُقاتلين، واقتناعهم بأنّهم يُشكِّلون جزءًا أساسيًّا فيها، ليسا إلّا من تجلّيات ظاهرة الانتقال التي جرى بناءً عليها أو نتيجةً لها تطوير مفهوم خاصّ عن العالميّة، وصارت الأعمال العالميّة بفعلها تؤثّر في المحلّية. ووفقًا لما يوردهُ المؤلّف، كلّما تزايد تأثير الإعلام وحركة الانتقال/ الهجرة في حياة الشبّان المُسلمين الغربيين، تزايد احتمال أن يُعيدوا تكوين أنفسهم كونهم مُجاهدين يخوضون حربًا عالميّة.
اقرأ/ي أيضًا:
برهان غليون: الدين هو أكبر سدٍّ ضدّ الطائفية
كتاب "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج": ترميمُ الذاكرةِ في دولةِ المؤرخين