"يجب على الأجانب إخبار وزارة الدفاع الإسرائيلية إذا وقعوا في حب فلسطينيين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، وفقًا لقواعد جديدة أقرتها إسرائيل"، هذا ما نقلته وسائل الإعلام قبل أيام في صيغ مختلفة. ومع التعديلات العديدة على القانون بعد جدل واسع، بقي شرط إعلام السلطات إلزاميًا. علقت السلطة الفلسطينية على القواعد الجديدة بأنها ترسخ "نظام فصل عنصري يفرض واقع دولة واحدة ونظامين مختلفين".
حين يتم محو الاجتماعي، أو تغييبه قسرًا، أو إخضاعه بالكامل لأدوات الدولة القسرية، فإن التمييز بين نطاقات مثل الزواج والحب، يصبح مستحيلًا
ورثت الدولة الحديثة المجتمع، فالحداثة في أحد أوجهها قائمة على تفكيك المجتمعي لصالح مؤسسات الدولة. وفي سبيل ذلك قطعت بعضًا من روابط الجماعة قسرًا، كصلات العشائر والطائفة والقبيلة وكذا الإثنيات الفرعية والعائلة الكبرى لصالح هويات وانتماءات واسعة ومتخيلة وأكثر تجريدية، هي الوطنية ونسخ تتسع أو تضيق من القومية. وما لم يتم تفسيخه من العلاقات التقليدية، فكان نصيبه التحويل أو البقرطة. علاقات النسب والزواج والطلاق ومثلها الميلاد والوفاة والمواريث، كان لها بالتأكيد مرجعياتها القياسية قبل الحداثة، ممثلة في قواعد الدين والعرف والعادات، إلا أن الدولة كما ورثت المجتمع، فقامت أيضًا بالاستيلاء على المؤسسة الروحية، إما بنفيها وتولي أدوارها أو بدمجها كما هي في دولاب عملها اليومي. وحين تعلق الأمر بالأعراف والتقاليد، فإن استيعابها داخل أدوات السلطة اللينة، ومؤسسات الدولة الأيدلوجية، يتم في فصول التعليم ووسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية وهيئات الصحة العامة.
إلا أن سيادة الحداثة ودولتها ليست شاملة، ولا تهدف بأي حال إلى هذا، فاقتصاد سلطة شاملة سيتحول إلى عبء يصعب تمويله أو ضمان ديمومة شبكة مؤسساته الحالية، وكذلك فإن مساحات الحرية الفردية وتفعليها الممكن فقط على محور الفصل ما بين المجال العام والمجال الخاص هي من أهم سمات الحداثة، وإن شكك البعض في صورية حرياتها وصورية ثنائية الخاص والعام.
يقع الحب، في تلك المساحة الملتبسة والمعقدة لتفاعلات الخاص والعام، ومواءمات الدولة مع المجتمع واحتكاكاتهما العدائية. البقرطة الكاملة للزواج، كفعل رسمي تحكمه قوانين الأحوال الشخصية ومحاكمها، يقابله خضوع الحب لتسويغات الأعراف والتقاليد الاجتماعية. في مجتمع حديث وجماهيري، حيث استكمل دمج الجماهير داخل المجتمع، يمكن القول إن الثقافة الجماهيرية هي اللاعب الرئيسي في صياغة وإنتاج تصوراتنا الجمعية عن العلاقات العاطفية. إلا أن تسكين الزواج داخل الإطار الرسمي وفي المقابل وضع العلاقة العاطفية في سياق اجتماعي، ليس سوى ثنائية أخرى مصطنعة. فالزواج يخضع للأعراف والتقاليد العائلية بقدر ما يخضع للقانون، أما العلاقات العاطفية فلا تنجو من تدخلات الدولة، وإن كان بصور أخف وضوحًا وأقل مباشرة. ولعل هشاشة تلك الثنائية تعود بالأساس إلى هشاشة ثنائية الدولة المجتمع، فهل بالفعل يمكن الفصل بينهما وتعيين حدودهما؟
يقدم الاستعمار الاستيطاني، القائم على نموذج الفصل العنصري، نموذجًا استثنائيًا للدولة. وحين يتعلق الأمر بالتعامل مع السكان الأصليين فإن دولته تتشارك في الكثير مع الدولة الشمولية. في تلك العلاقة الشمولية، تصل الحداثة إلى حدها الأقصى، نموذجها المثالي والفائق، كحلم وكابوس في آن. ففي سعيها للسيطرة المطلقة، تجد نفسها ملزمة بتفعيل الفصل بين الدولة والمجتمع، وتوسيع هذا الفصل إلى الحد الأقصى، بحيث يكون هدفها النهائي هو تحطيم المجتمع ومحوه بالكامل، وإخضاع شظاياه لسيطرة الدولة بشكل نهائي. يظل هذا سعيًا مثاليًا، لا يمكن تحقيقه بالكامل في ظل وجود مقاومة شرسة من المجتمع المحتل أو المخضع ، لكنه يظل الغاية النهائية بأي حال.
يقع الحب، في تلك المساحة الملتبسة والمعقدة لتفاعلات الخاص والعام، ومواءمات الدولة مع المجتمع واحتكاكاتهما العدائية
حين يتم محو الاجتماعي، أو تغييبه قسرًا، أو إخضاعه بالكامل لأدوات الدولة القسرية، فإن التمييز بين نطاقات عمليات مثل الزواج والحب، بين الرسمي والحميمي، والقانوني والرومانسي، وبين الخاص والعام يصبح مستحيلًا. هكذا يتم بقرطة الحب، فلا شيء يمكن تركه خارج سياجات المنظومة القانونية والقسرية، فليس العقد القانوني للزواج وحده ما يكون موضوعًا للشهادة والإشهار والتوثيق، بل والعلاقات العاطفية أيضًا تتحول إلى موضوع بيروقراطي، ومن اختصاص الجهات الأمنية على وجه التحديد.