أعاد الصحفي الأمريكي الشهير كريس هيدجز مشاركة مقالات له كتبها خلال الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزّة، نشرها على مدوّنته الخاصّة، وفيهارسمٌ مفصّل لطبيعة التوحّش الإسرائيلي في هذه الحرب والأهداف المقصودة منه، كما فيها بيانٌ لمدى التماهي بين الموقف الغربي والإسرائيلي إزاء قيمة حياة الفلسطينيين وحقوقهم، وتأكيد على طبيعة اللغة التي لا تتحدث إسرائيل سواها، وهي لغة القتل والإرهاب، من أربعينات القرن الماضي وحتى اللحظة. سننقل عددًا من هذه المقالات المختارة إلى العربية، وننشرها على حلقات.
كنت في العاصمة القطرية، الدوحة، أتابع البث المباشر لوقائع الحرب على غزّة. لقد اضطر مراسل قناة الجزيرة في شمال القطاع إلى النزوح جنوبًا، هربًا من القصف الإسرائيلي القريب والعاتي، لكنّه ترك خلفه الكاميرا، مثبتة على مستشفى الشفاء، أكبر مجمع طبي في غزّة. حلّ ظلام ذلك اليوم، وبدأت الدبابات الإسرائيلية قصفها المباشر نحو المجمع، برشقات أفقية طويلة حمراء. كان ذلك هجومًا متعمّدًا على المستشفى، أي جريمة حرب مقصودة، ومذبحة بحق مدنيين في أشد حالاتهم ضعفًا، من بينهم أطفال رضّع أعياهم المرض مبكرًا. وفجأة، انقطع البثّ.
تسمّرنا أمام الشاشات، وسكتنا كلُّنا. فنحن نعرف ما الذي يعنيه هذا الانقطاع، فليس ثمة كهرباء ولا ماء ولا إنترنت، ولا مستلزمات طبية. نعرف أن كلّ رضيع في الخداج سيموت، وكل مريض كلىً سيموت. المصير ذاته ينتظر كلّ من هم على أسرة العناية الحثيثة، وكل من هم بحاجة للأكسجين، ومثلهم أيضًا كل من ينتظر عملية جراحية عاجلة. راح كلّ منّا يتساءل برعب عن مصير آلاف النازحين الذي لجأوا إلى هذا المجمع بعدما تهدّمت بيوتهم جراء القصف الضاري. نتساءل عبثًا، إذ كنا نعرف الإجابة جيدًا، فالعديد منهم سيكون مصيرهم الموت أيضًا.
حاولت تلمّس كلماتٍ فيها من الطاقة ما يكفي للتعبير عن هول ما نشهده في قطاع غزّة، فعجزت. تلك ذروة قصوى من الرعب المطلق في أسابيع مرعبة طويلة. أمام ذلك، ظلت أوروبا غير مكترثة، رغم الكارثة الممتدّة، في حالة يضاعف فداحتها التواطؤ الأمريكي الذي بلغت سوأته حدًا يتعذّر وصفه. لا شيء يسوّغ ما يحصل، لا شيء على الإطلاق. أما جو بايدن، فسيحفظ التاريخ أنّه كان شريكًا في هذه الإبادة. لعل لعنة آلاف الأطفال القتلى الذين شارك في ذبحهم تظلّ تلاحقه حتى نهاية عمره.
ثمة رسالة تحاول إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة إرسالها إلى بقية العالم، وهي رسالة مريعة مؤدّاها أنه لا القانون الدولي والإنساني له أي اعتبار، ولا اتفاقيات جنيف ولا سواها. فهي لم تنطبق فيما سبق على العراق مثلًا، فلم ستكون ذا جدوى بالنسبة إلى ما يجري في غزّة. يعلن الإسرائيليون نواياهم بلا مواربة. يقولون إنهم سيهدّمون الأحياء والمدن بالقنابل والصواريخ ويحيلونها إلى ركام. يقولون إنهم سيقتلون النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، وأنهم سيطوّقون القطاع ويغلقونه على من فيه، لتجويعهم ونشر الأوبئة بينهم. إنهم يقولونها صراحة: "أنتم أيها الفلسطينيون في مرتبة دوننا، لا قيمة لحياتكم، وسنسحقكم مثلما نسحق الهوام". يقولون، الملك كلّه لنا اليوم، وبين أيدينا كلّ ما نحتاج إليه، ولو سعيتم إلى منافستنا على ذلك، فسوف نبيدكم، ولن يحاسبنا على ذلك أحدٌ.
لقد بات الغرب مكروها، لا بسبب قيمه، وإنما بسببٍ من غيابها. نحن مكروهون لأن القواعد التي نضعها لا تسري علينا، بل على من هم سوانا. نحن مكروهون لأننا منحنا لأنفسنا الحق في تنفيذ مجزرة شاملة. نحن مكروهون لأننا عتاة قلوبنا ميتة، مكروهون لأننا منافقون، نتحدث عن حماية المدنيين، وعن سيادة القانون والقيم الإنسانية، وهو ما تكذبه أفعالنا؛ إذ نقتل مئات البشر يوميًا في غزّة، بواقع 160 طفلًا في اليوم على الأقل.
ثارت ثائرة إسرائيل حين اتهمت بقصف المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، وأودت بحياة المئات ممن كانوا فيها. ادّعت إسرائيل أن الانفجار سببه صاروخ فلسطيني شارد، أطلقه فصيل مقاوم، وهم يعلمون أنّه ليس ثمّة في ترسانة حماس أو الجهاد الإسلامي من القذائف ما يمكن أن ينجم عنه دمار بحجم ما شهدنا في المعمداني. نحن الذين عملنا في غزّة وغطينا أخبارها، سمعنا كثيرًا من مثل هذه المبالغات من إسرائيل حتى مللناها، فهي دومًا تلوم حماس والفلسطينيين على جرائم حرب هم ضحاياها، حتى بلغ بها الأمر أن تدعي جزافًا بأن المشافي مراكز قيادة لحماس. يكذب الجيش والحكومة في إسرائيل كما يتنفسون.
لا حدّ للنفاق الإسرائيلي والأمريكي، ولا فرق بين الطرفين في الأهداف المقصودة من العدوان، باستثناء أن واشنطن ترغب في أن تنتهي إسرائيل من المهمّة بأسرع ما يمكن. أمّا هذا الحديث عن "الممرات الآمنة" و"الوقفات الإنسانية" في إطلاق النار، فليست إلا سبلًا ملتوية للمضي قدمًا في إخلاء شمال غزّة وتفريغه من سكانه بالكامل. أما العدد الضئيل من شاحنات المساعدات الإغاثية التي تدخل من رفح المصرية، فليس إلا ذرًا للرماد في العيون. الهدف الوحيد الواضح هو القتل، والقتل، والمزيد من القتل، وبأسرع وتيرة ممكنة. وجلّ ما يعني المسؤولين في إدارة بايدن الحديث عنه، هو ترتيبات المرحلة التالية لقضاء إسرائيل على الحياة في غزّة، وهم يعلمون أن المذبحة هنا لن تنتهي حتى ينزح الغزيون جميعًا ويترَكون للموت بلا مأوى في جنوب القطاع، حيث لا طعام ولا ماء ولا مستشفيات باقية على حالها.
كان القطاع قبل التوغل البري من أشدّ الأماكن اكتظاظًا بالسكان على الأرض، فكيف ستكون الحال حين يرغم 1.1 مليون غزّي من شمال القطاع الذي بالكاد يسعهم، لينحصروا مع 1.1 مليون آخر في الشق الجنوبي الذي لا يقل عن الشمال اكتظاظًا بالسكان. ما الذي يمكن أن يحصل في حال كهذه، حين تبدأ أمراض مثل الكوليرا بالتفشي بين الناس. كيف سيكون الحال أمام الوبال المرصود إثر النقص الكارثي في الغذاء والماء؟ هل سيتصاعد الضغط على أهالي غزّة وهم مكدسون في الجنوب إلى حين حصول تحرّك ما، وهو تحرّك تأمل إسرائيل أن يكون اندفاعًا بشريًا فلسطينيًا خارج القطاع، إلى سيناء عبر الحدود مع مصر، حيث يخرجون إليها ولا يعودون إلى أرضهم أبدًا، فيكون بذلك قد تمّ لإسرائيل تطهيرها العرقي للقطاع بالكامل، وتتفرغ بعدها إلى إتمام التطهير العرقي في الضفة الغربية؟!
هذا هو حلم إسرائيل المختلّ، وشرط تحقيقه هو جعل الحياة في غزّة ضربًا من المستحيل للفلسطينيين.
ليسأل كلّ منا نفسه: لو كنتُ فلسطينيًا في غزّة وتوفر لي السلاح، ألن أفكر بمقاومة ذلك؟ لو قضت إسرائيل على عائلتك، ماذا كنت لتفعل؟ لمَ ستكترث لقانون دولي أو ميثاق إنساني وأنت تعرف أنه لا ينطبق إلا على المضطهَد، ويتفلت منه المضطهِدون؟ لو كان الإرهاب هو اللغة الوحيدة التي تستخدمها إسرائيل للتواصل معك، واللغة الوحيدة التي يبدو أنها تتعاطى بها، ألن تجيبها باللغة ذاتها؟
* نشرت النسخة الإنجليزية من هذا المقال في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2023