بعد تناولنا في مقالات سابقة لمفهوم النزعة الإنسانية، والواقعية السحرية، والسوريالية، والإباحية، في سياق حديثنا عن أبرز الحركات التي أثّرت عميقًا في توجيه الفن والسياق الثقافي العام وكيف أصبح عليه الحال اليوم، نتطرق هذه المرة إلى الاتجاه الرومانسي، الذي جاء كردِّ فعل على الحياة الميكانيكية التي خلقتها الثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر.
الرومانسية نهج يعتمد على التفكير بالعاطفة والحدس والعفوية في الحياة بدلًا من العقل والمنطق الكلاسيكي
فماهي إذًا الحركة الرومانسية، وفي أي سياق نشأت، وكيف أثرت في الحياة البشرية؟
بخلاف ما هو شائع، فمصطلح "الرومانسية" - كمفهوم ثقافي – يتجاوز بكثير معاني الغرام والعشق بين حبيبين إلى نطاق أوسع، فهو يشمل مختلف تجليات الشعور، ويدور حول قيم الحرية والمثالية، بالإضافة للحنين إلى الماضي والطبيعة، إنه نهج يعتمد على التفكير بالعاطفة والحدس والعفوية في الحياة بدلًا من العقل والمنطق الكلاسيكي، حيث يكون "الشعور هو شريعة الفنان" كما يقول الرسام الألماني كاسبر ديفيد فريدريش.
اقرأ/ي أيضًا: كيف انعكس الكساد الكبير على الفن في أمريكا؟
واستخدم مفهوم "الرومانسية" لأول مرة في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما كتب كل من الناقدين الألمانيين أوغوست وفريديريك شلاغال عن "الشعر الرومانسي"، ثم شاع المصطلح في فرنسا وأنحاء أوروبا مع بداية القرن التاسع عشر.
كان النموذج الأولي المبكر للرومانسية هو الحركة الألمانية المسماة "Sturm und Drang" (العاصفة والإجهاد)، ومع أنها كانت في الأساس حركة أدبية موسيقية نشطت من عام 1760 إلى عام 1880، فقد كان لها تأثير عميق على الوعي العام والفن، وهكذا بدأ الفنانون الذين يتقاسمون نفس الشعور والموقف تجاه الفن والطبيعة والإنسانية، يعتبرون أنفسهم جزءًا من الحركة.
أخذت الحركة اسمها من عنوان مسرحية "Romanticism" تعود لفريدريش ماكميليان، ليتبلور الاتجاه الرومانسي، ويصبح بحلول العشرينات من القرن التاسع عشر حركة فنية أدبية تهيمن على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، تقدم رؤية جديدة للمجتمع والدين والقيم ترتكز على الحس والتلقائية، وسرعان ما بدأت يتسرب تأثيرها إلى العلوم الاجتماعية والسياسة والتعليم.
لقد كانت الرومانسية بمثابة رد فعل على القواعد الاجتماعية والسياسية المتزمتة، والطرق العلمية الصارمة، والعقلانية الكلاسيكية، وجميع العناصر التي جاءت بها الحداثة، وبدلًا من ذلك فضّل الفنانون الرومانسيون الحس والعواطف - وليس مجرد العقل والنظام – كطريقة أساسية لفهم العالم وعيش التجربة الذاتية، بعيدًا عن موجة التصنع والقواعد الميكانيكية السائدة في ذلك الوقت.
وهكذا بدأت الآداب والموسيقى والرسومات وأشكال الفنون الأخرى في السياق الرومانسي، تبتعد شيئًا فشيئًا عن الإطار الأكاديمي الكلاسيكي والقواعد "المصطنعة" التي تحدد ما يجب أن يكون عليه العمل، لتحتفل بالخيال والحدس الفردي في البحث الدائم عن الحقوق الفردية والحرية. بل ذهب تايلور كوليردج وزملاؤه في الاتجاه إلى أن تلك القواعد الاجتماعية والعلمية التي صنعتها الحداثة الكلاسيكية، "تعيق الخيال والإبداع"، مفضلًا العفوية والإلهام كنهج للممارسة الفن والوصول إلى الأصالة.
بحلول القرن العشرين، احتضنت الحركة الرومانسية مجموعة متنوعة من الأساليب في معالجة موضوعات الحياة، فبعضها اتجه إلى التعبير عن الحب والخوف والرعب والغربة، من خلال الشعر والرواية والرسم والنحت والموسيقى، عاكسًا الفنان بعمله المشاعر العميقة التي يشعر بها المرء آنذاك وسط عهد المجتمع الصناعي.
فيما ركز رسامون رومانسيون آخرون انتباههم على الطبيعة، إذ كانوا لا يثقون بالعالم البشري، ويميلون إلى الاعتقاد بأن الارتباط بالطبيعة هو أكثر صحة نفسيًا وأخلاقيًا، فكانوا يترصدون المناظر الطبيعية الاستثنائية والجوانب الخفية من حياة الأدغال، لقد كان لهم الفضل الكبير في الارتقاء بالرسم إلى مستويات أعلى، من خلال لوحاتهم التي توحي للمتلقي بسلطة الطبيعة ومشاعر الرهبة، والتي عادة لا يلاحظها المرء وهو داخل وسطه الاجتماعي.
كما احتضنت الرومانسية أيضًا النضالات الشعبية من أجل الحرية والمساواة وتعزيز العدالة، في سياق الثورة الفرنسية والأمريكية، حيث تصدى الفنانون الرومانسيون لمنطق الأمر الواقع وذوق النخبة الصناعية السائد، واتخذوا مظالم الناس وقيم الحرية والعدالة موضوعات لأعمالهم، ولعبت الأغاني والقصائد الثورية والروايات المناضلة ضد الدكتاتوريات دورًا هامًا في تشكيل وعي ثوري في أوروبا.
ارتبطت الحركة الرومانسية بشكل وثيق بظهور القومية الجديدة التي اكتسحت العديد من البلدان بعد الثورة الأمريكية
من ثم ارتبطت الحركة الرومانسية بشكل وثيق بظهور القومية الجديدة التي اكتسحت العديد من البلدان بعد الثورة الأمريكية، إذ قدم الفنانون الرومانسيون من خلال أعمالهم المادة الخام، من مُثل عليا واحتفاء بالطبيعة وتقدير للأصالة والعفوية وتقاليد ثورية، لبناء الهوية الوطنية في تلك البلدان.
اقرأ/ي أيضًا: الفن الإسلامي.. تجريد وتحريف وتأمُّل
قاد غوص الحركة الرومانسية في داخل شعور الفرد وأحاسيسه، إلى استكشاف النفس البشرية بشكل أكثر عمقا، بما تحمله من جمال وغموض ورعب، حيث استطاع فنانوها عكس كل ذلك المخفي في أعمالهم الأدبية والفنية، ليدفعوا الروح البشرية نحو مستويات أعلى، أو كما قال الكاتب الروسي البريطاني أشعيا برلين: "تجسدت الرومانسية كروح جديدة لا تهدأ، وفي انشغال عصبي دائم بتغير الوعي الداخلي، تسعى بعنف لتفجير أشكال قديمة ومقلقة، وتتوق إلى اكتشاف مصادر جديدة ومنسية من الحياة، إنها جهد شغوف لتأكيد الذات الفردية والجماعية".
اقرأ/ي أيضًا: