08-ديسمبر-2020

(Getty) ساحة التحرير في بغداد

ما الحرية؟ لو ألقينا هذا السؤال حجرًا في بحيرة الفلسفة لأبهرتنا موجات الإجابات المتنوعة، فلكلّ منّا وجهة نظر في تلك الأنثى البهية التي يسعى خلفها السواد الأعظم من البروليتاريا، بينما يخشاها البرجوازيون وكل أصحاب الكراسي الذهبية. هبة السماء الصرفة التي لا تنعم بها سوى خمس دقائق ثم يُسلب منها ثُلمة، وتبقى طوال عمرك تجري وراء ما تبقى منها والذي تتناهبه المحطات والأنظمة تباعًا، أما الكهنوت فيدّعي محاربة العبودية وحقيقةً هو يلبسها حُلة جديدة ويعيد حقنها في العقول. وصف ايمانويل كانط الدين وصفًا أفلاطونيا قائلًا: "الدين هو مجال حوار حرّ لأنه قائم على اتصال إرادي اختياري".

وصف كانط الدين وصفًا أفلاطونيًا قائلًا: "الدين هو مجال حوار حرّ لأنه قائم على اتصال إرادي اختياري"

تشرّب كانط في مطلع مسيرتُه بطروحات لايبنز الذي يترجم الحرية "بأنها قوة الفعل المنصاعة للإرادة، التي بدورها لا تتمرد على فطرتها، والفطرة لديه كبوصلة تشير لوجهة الخير، بالتالي تقوم الفطرة بتوجيه الإرادة، ويدخل الخير حيز التنفيذ". نظرياته مقولبة بالكمال (Perfection) ومجبولة بالجبر والوجوبية إلا أنّ كانط تماهى معها بباقة من التفسيرات العابقة بالدفاع عنها.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: حرية وتقييد وفساد

لكن هذا الموقف سرعان ما تبدّل حينما أعاد كانط النظر في أفكاره، ليعلن نقده لما سبق بل ومعارضته. وبدأ بتذوق كأس فلاسفة الحس الخُلُقي أمثال شافتزبوري أنتوني كوبر وهاتشيسون فرانسس، ممن اعتمدوا الحس الأخلاقي كذوق فطري للتمييز بين الخير والشر، وموضوعة الأخلاق لديهم قائمة على التحليل النفسي ومنفصلة عن الدين. إلا أن كانط لم يستسغ مذاق تلك الكأس تمامًا.

لذا قرر الطواف في أفلاك جان جاك روسو الذي شبههُ كانط بنيوتن الأخلاق، استحضر روسو أربعة أنواع من الحرية: الطبيعية، المدنية، الأخلاقية، الجمهورية.

وأما الحرية الطبيعية فهي حق الإنسان المطلق في جميع الأشياء، إلا أن هذا النوع من الحرية يقود إلى التنافس على الموارد الشحيحة، بالتالي اللجوء إلى العنف والصراعات. فتتدخل هنا الحرية المدنية لتشيع الهدوء في المجتمعات البدائية، وذلك بفرض قوانين موضوعة بإرادة العامة وتُطبّق على الجميع بالتساوي، بلا تطفل ولا يقف خلفها قصد الإجهاد وتضييق الخناق، إذ تضمن لجميع الأفراد مجالًا من الحرية المتساوية وحماية لهم ولممتلكاتهم. وفي ظروف المجتمع المدني تُفعّل الحرية الأخلاقية، والتي يقصد بها طاعة المرء للقانون الذي وضعه بنفسه. يصفها روسو قائلًا: "إنّ الحرية الأخلاقية تختلف عن الحرية الطبيعية التي نفقدها عن طريق العقد الاجتماعي، والحرية المدنية التي تحددها الإرادة العامة، فالحرية الأخلاقية وحدها تجعل المرء سيّد نفسه".

أما المفهوم الرابع، الحرية الجمهورية، فتشترط على القانون أن يحميني من طاعة أي شخص بعينه، أي حماية ضد التبعية الشخصية والاستعباد.

فيشته: "إنّ الكائن العقلاني هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن نعتبره كائنًا مستقلًا، تأسيسًا مطلق لذاته".

وبينما نتفيأ ظلال مشروع روسو، هناك سؤال يطرح نفسه بخصوص الأقليات والأغلبية في الأنظمة الديمقراطية، المواطنون الذين يعارضون التصويت لقرار معيّن، سيجدون أنفسهم ملزمين بإطاعة قرار لا يوافقون عليه! فأي حرية تلك؟!

اقرأ/ي أيضًا: 4 كتب لا بدّ منها حول الحرية

تقاربَ كانط وروسو في تعريف الحرية والإرادة المستقلة والحرية الأخلاقية وعلة وجود القوانين ومصدرها ووجوبيتها، لكنهما تباعدا في كيفية التعاطي مع الإنسان، فكان التركيز ينصب على عقله وحريته المجردة لدى الأول، وكان الإنسان بكلّيته بحكمته وأهوائه بمصالحه وميوله مركز الوجود بالنسبة للثاني. وبرغم الغموض والتعقيد الذي يكتنف نتاجات كانط في بعض المنعطفات، إلا أنه كان التأويل لمشروع روسو.

وقد شخّص كانط معنيين للحرية، المعنى السلبي: بأنها إرادة الكائن العاقل المستقلة والمتنصلة من كل التأثيرات الخارجية، وكأنها عصى اللامبالاة تُمنح للمرء لفعل ما يحلو له ضاربًا بها كل حق للآخرين والطبيعة.

أما المعنى الإيجابي فهو تشريع الإرادة لنفسها بنفسها، أي أن الإرادة الحرة هي التي تخضع لتشريع أخلاقي.

وراح نداء الحرية يتردد صداه في الأفاق فكتب فولتير "قلت لكم إن حرية الإنسان تكمن في قدرته على الفعل وليست في قدرته الخيالية في إرادة ما يريد"، يُجيبهُ فريدريك ويلهيلم شلينك "أن تكون حرًّا هو أن تحقق المثالي في الحقيقي، أريد أن أكون حرًّا يعني أريد أن أعمل لنفسي بنفسي ما يجب أن أكونه"، يستدرك لايبنز بإيجاز "الحرية هي أن تكون مستقلًا"، فيعلو صوت يوهان غوتليب فيشته موضحًا "إنّ الكائن العقلاني هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن نعتبره كائنًا مستقلًا، تأسيسًا مطلق لذاته".

ويستمر السجال كزهرة سحلبية دموية، تتلقفها الشفاه على مر العصور. وكلّما لامست روحًا حولتها إلى ريشةٍ بيضاء في جنحِ صقر، همّتها الأعالي ومضجعها السفوح، هي لا تنام لا تسأم أو تستكين. هبوب الريح يبهجها وإن كانت غير مواتية لها، فذاك التحدي يُذكيها ويشرح صدر حامِلها، لترقص نشوة مجنحة ملهبةً الأحرار.

أخيرًا "أن تكون حرًا فذاك شيء جيد، أن تصبح حرًّا فتلك هي السماء"، بحسب  فيشته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. خرائط الحرية

رهاب الحرية