تحت عنوان "السلحفاة في مواجهة الأرنب"، نشر موقع مجلة "ذي إيكونوميست" تحليلًا للسياسة الصينية تجاه الأحداث العالمية، ينطلق من أنّ الصين تتحرك داخل النظام العالمي دون أن تتحدّى مساره، مُكتفيةً بالاهتمام بما ينعكس عليها بشكل مباشر. وفيما تُعد الصين قوة صاعدة، إلا أن المصالح تُدجّن تحركاتها، في مقابل ما يبدو تحوّلًا في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية بعد وصول دونالد ترامب لسدة الحكم. وفيما يلي نستوضح تفاصيل هذه التحركات بين سياستي كل من القوتين.
تُعد الصين قوة صاعدة، إلا أن المصالح تُدجّن تحركاتها، لتبقى منفتحة على متغيرات السياسة الدولية خدمة لتوغلها التجاري الدولي
بينما يتحضر دونالد ترامب وشي جين بينغ، الأسبوع المقبل، للقاء بعضهما وجهًا لوجه، يعيد كلا البلدين مساحة تواجدهما في العالم، فكلاهما ينظر في اتجاهين معاكسين حيث الولايات المتحدة تبحث عن رمي مسؤوليات قيادة العالم عن كتفيها، فيما تُقبل الصين غير مدبرة، وكل منهما يدعم توجهه بطرق مُختلفة.
تبدو إدارة ترامب مثل الأرنب البري تتنقل بين سياسة وأخرى، حتى أنها تناقض نفسها في بعض الأحيان، ومستعدة طوال الوقت للدخول في صدام مع خصومها. أما الصين فتبدو كسلحفاة تمد رأسها بحذر خارج درعها بخطوات بطيئة ومتأنية، وحيث يعرف اليعسوب المراقب كيف ستنتهي هذه المسابقة (كما جاء في الحكاية).
كان مبدأ السياسة الخارجية الذي قامت عليه الصين، هو مبدأ "دنغ شياو بينغ" فى عام 1992، الذي ينص على أن تبقى البلاد منخفضة الصوت، دون أن تأخذ بزمام المبادرة، وأن لا تسعى لإحداث تغيير. لكنّ هذا الوضع تغيّر قليلًا عام 2010، عندما بدأت التصريحات الرسمية تتجه إلى "أن الصين يجب أن تكون دولة مؤثرة". ذهب السيد شي إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، ليقول للحشود المجتمعة هناك إن الصين يجب أن تقود العولمة الاقتصادية، فيما قال دبلوماسيون في العاصمة بكين، إن شائعات تشير إلى أن أوّل مسودة لخطاب شي ركزت على الاقتصاد المحلي، وهو موضوع غير مُثير للجدل يُفضل القادة الصينيون في العادة الحديث عنه خارجيًا، لكن شي رفض هذه المرة هذا النوع من الخطابات، وأحضر مُستشارين أجانب لصياغة رؤية الصين للعالم. وبغض النظر عن صحة هذه الرواية، فقد كان خطاب الرئيس الصيني "مذهلًا" على المستوى الدولي في موضوعه وصياغته.
وفي وقت ما كانت الولايات المتحدة تحث الصين على تكثيف دورها على الساحة الدولية. وفي عام 2005 حثّ روبرت زويليك -نائب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك- الصين على أن تصبح "صاحبة مصلحة مسؤولة" في النظام الدولي، بتعبيره. لكن شيئًا لم يحدث، وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008 كان هناك حديث متزايد في الصين والغرب حول "نموذج الصين" أو "الإجماع على بكين"، إذ كان من المفترض لذلك أن يكون بديلًا عما يُسمى بـ"توافق الآراء حول واشنطن"، وهو وصفٌ للسياسات الاقتصادية في السوق الحرة للبلدان النامية. إلا أن أولئك المتحمسين لما يُسمى بـ"النموذج الصيني" لا يدعون إلى أن تعتمده دول أُخرى، وإنما فقط رفض أُحادية القطب الأمريكي، فهل يتحقق ذلك وتنافس الصين الولايات المتحدة بالفعل في قيادة العالم؟
دليل إرشادات السياسة الصينية
للإجابة على السؤال السابق، من المهم البدء بالطريقة التي تعمل بها السياسة الصينية، إذ من النادر أن يُكشَفَ عن السياسات بشكل كامل في خطابٍ رئاسي، وفي المقابل يفضل المسؤولون إرسال إشارات خفية عن التغييرات المقصودة، بطريقة تتيح للحكومة أن تتراجع في حال فشل النهج الجديد. وتُضخمُ الإشارات من قبل جهات مماثلة أخرى أسفل النظام (صغار الموظفين)، وتجمعها المناقشات الخاضعة للرقابة في وسائل الإعلام المملوكة للدولة؛ ذلك هو ما يحدث الآن في مجال السياسة الخارجية.
هذا وذُكرت عبارة "الحل الصيني" لأول مرة في يوليو الماضي (2016) خلال الاحتفال بالذكرى 95 لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، إذ قال الرئيس الصيني إنّه "واثق تمامًا من أن شعبه سيوفر حلًا صينيًا للباحثين عن مُؤسسات اجتماعية أفضل". ورغم أنّه لم يُحدد ما هو الحل الصيني، إلا أن العبارة نفسها (الحل الصيني) وردت تقريبًا في كل مُناسبة لاحقة، وكأنها الكلمة السحرية التي ستحل كل شيء، وإن ظل محتواها غامضًا. لكنّ صحيفة الشعب اليومية الصينية الناطقة بلسان الحزب الحاكم، قالت في منتصف مارس المنصرم "هناك حل صيني لتغيّر المناخ"، كما أنّ صحيفة التايمز قالت في مقالة نشرتها في يناير الماضي، إن الاستثمارات التي تبلغ مليارات الدولارات في البنية التحتية بآسيا الوسطى، هي "الحل الصيني" للفقر وعدم الاستقرار هناك، وعلى هذا المنوال انتشر فيروس "الحل الصيني" في صحف ومحافل شتى. وخلافًا للنموذج الصيني التقليدي، الذي كان يدفع نحو الدول النامية، فإنّ "الحل الصيني"، ووفقًا لديفيد كيلي من شركة تشاينا بوليست الاستشارية، هو حل مناسب للجميع بما في ذلك الدول الغربية.
اقرأ/ ي أيضًا: فهم الاستراتيجية الصينية عن طريق ثقافتها
وسابقًا كان معظم المسؤولين حذرين من تداول عبارة "الحل الصيني"، خوفًا من أن يُفسّر ذلك على أن الصين تسعى للتخطيط للدول الأخرى، وهو ما لا يتطابق والسياسة الصينية بعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية. في نفس ذلك الوقت كان الرئيس الصيني من يطرح فكرة "الحل الصيني". والآن تبدو الصين غير قلقة من جمع العالم حولها، أو حول حلّها.
تُعد الصين الآن ثالث أكبر مانح لميزانية الأمم المتحدة، وثاني أكبر مُساهم في عمليات حفظ السلام
لا يعكس ذلك فقط تصميم القيادة على أداء دور أكبر، وإنّما أيضًا على الثقة المتزايدة من قدرة الصين على لعب هذا الدور. وقد تعززت هذه الثقة بالنجاحات الكبيرة التي حققتها الصين على مستوى السياسة الخارجية. ففي العام الماضي حكمت محكمة دولية ضد مزاعم الصين بالسيادة على جزء كبير من بحر الصين الجنوبي، بيد أن الصين أقنعت الفلبين على وجه السرعة، بأن تتحلل من انتصارها القانوني، وبالتخفف من علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة، مُقابل استثمارات صينية هائلة على الأراضي الفلبينية، لتكون النتيجة في النهاية: أنه رغم حكم المحكمة الدولية، إلا أن 2016 كان عامًا جيدًا جدًا بالنسبة للصينيين في بحر الصين الجنوبي!
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي دفع الصين إلى الانخراط في الحرب السورية؟
وكانت من أبرز مبادرات الرئيس الصيني، مبادرة "الحزام والطريق" التي شملت استثمارات في البنية التحتية على طول طريق الحرير القديم بين الصين وأوروبا. وقد بلغت قيمة العقود الموقعة في إطار هذه المبادرة خلال العام الماضي فقط حوالي تريليون دولار أمريكي، علمًا بأنّ هذه المبادرة بدأت منذ عام 2013. وتزداد كل فترة العواصم المنضمة إلى المبادرة التي تجاوزت طريق الحرير التقليدي وُصولًا إلى أقاصي أوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة، وجنوبًا نحو أفريقيا ثم أستراليا.
"الحل الصيني" تحت مظلة النظام العالمي
يمكن إذن القول إن الحديث عن "توجيه العولمة" و"الحل الصيني"، لا يعني أن الصين تدير ظهرها للنظام العالمي الحالي، أو أنها تتحدى القيادة الأمريكية، بل إن ما يحدث هو أن الصين تُحاول توسيع نُفوذها داخل النظام، فهي ليست قوة ثورية عازمة على الإطاحة بالأشياء، ولا هي غاضبة، ولا تنوي السيطرة على العالم.
وتعد الصين الآن ثالث أكبر مانح لميزانية الأمم المتحدة، بعد الولايات المتحدة واليابان، كما تُعد ثاني أكبر مُساهم في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بعد الولايات المتحدة. وفي العام الماضي ترأست الصين قمّة مجموعة العشرين، في حين تمتلك الصين سجلًا فوق المتوسط من الامتثال لقرارات المجموعة. وفي 2016 وافق صندوق النقد الدولي على اعتماد العملة الصينية اليوان ضمن سلّة العملات الدولية. كما أنشئت مؤسستان ماليتان، هما البنك الآسيوي للاستثمار في التنمية التحتية، وبنك التنمية الجديد، وهما نموذجان قريبا الشبه من البنك الدولي.
وهكذا أصبحت الصين أكثر نشاطًا داخل الأمم المتحدة، لكنها مع ذلك لا تسعى للسيطرة عليها، وتبدو أيضًا مُسالمة ومنصاعة للنظام العالمي بتفاعلها مع سياسة العقوبات ضد كوريا الشمالية. مع ذلك، ورغم عملياتها واسعة النطاق لـ"مكافحة الإرهاب" في الداخل، إلا أنها لا تبدي اهتمامًا يُذكر بالحرب الدولية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ناهيك عن قيادة العمليات المُسلحة ضد التنظيم.
فما الذي يُمكن أن تعنيه سياسة "التواضع" الصيني هذه، والتي يُمكن تلمسها في سياستها الجديدة تجاه تغيّر المناخ؟ لقد كانت الصين في 2008 أحد العقبات الرئيسية أمام اتفاق المناخ العالمي، لكنها، وعلى العكس تمامًا، كانت إيجابية بدرجة كبيرة في اتفاق باريس التاريخي للمناخ عام 2016، بل ساهمت أيضًا في تحديد كيفية تعريف هذا الاتفاق، عبر ما يُسمى بـ"المسؤوليات المُشتركة والمتباينة"، أي حجم المسؤولية التي على كل بلد أن يكون مسؤولًا عنها في خفض الانبعاثات الكربونية. وبصفته رئيسًا لمجموعة العشرين العام الماضي، جعل الرئيس الصيني مكافحة تغيّر المناخ والاحتباس الحراري أولوية بالنسبة للمجموعة. لكن نفوذ الصين في ذلك الوقت كان مدعومًا باتفاقها مع الولايات المتحدة، والآن بدأ ترامب التخفف من سياسات المناخ التي رسمها أو أبرمها سلفه أوباما، ورغم ذلك يبدو أن الصين لن تتراجع عن الخطوات الإيجابية التي خطتها فيما يخص تغيّر المناخ، وهو ما أكدته في مُؤتمرٍ لمنظمة السلام الأخضر، ومن هنا قد يُصبح تعبير "الحل الصيني" واقعًا عمليًا بالفعل في قضية تغيّر المناخ العالمي.
اقرأ/ي أيضًا: