قبل أن نبدأ، يجب أن نتذكر شيئًا أساسيًا، هو أن جميع نصوص اليونان القديمة من تأليف الرجال، ومثل باقي مجالات المجتمع، فإننا نادرًا ما نسمع وجهة نظر المرأة. نحن لا نقرأ إلا عن حياة نساء الأسر الغنية، أو النساء الفقيرات اللائي أُعجب بهن أمير ما، لكن نساء هاتين المجموعتين لسن سوى جزء صغير من نساء تلك الحقبة.
حياة المرأة اليونانية العادية، كغيرها من نساء المجتمعات الأخرى، غامضة إلى حد ما
وعليه، فإن حياة المرأة اليونانية العادية، كغيرها من نساء المجتمعات الأخرى، غامضة إلى حد ما بالنسبة لنا.
الحياة في الظل
دعا أفلاطون إلى تعليم النساء تعليمًا مماثلًا لتعليم الرجال، ذلك من أجل تطبيق المساواة بينهما، لكن الفكرة لاقت صعوبة في التطبيق، أو بالأحرى لم تُستقبل، بالنسبة لمعظم الإغريق. حتى النساء، كما خشي أفلاطون، رفضن فكرة الخوض في أمور اليوميات المجتمعية إلى جانب الرجال، فقد اعتدن دومًا على "الحياة في الظلّ".
اقرأ/ي أيضًا: الحياة الجيدة كما تصورها فلاسفة الإغريق
في بعض الأفلام السينمائية التي تحاكي تاريخ اليونان القديم، وفي مشاهد السفن أو العمل بالتحديد، يلاحَظ ظهور الرجال ذوو البشرة الداكنة يعملون إلى جانب النساء ذوات البشرة البيضاء، على الرغم من أن هذا مبالغ فيه من ناحية الاختلافات بين الجنسين، إلا أن ذلك لم يكن صحيحًا، حسب وصف فيرجيل (70 ق.م)، فالنساء الغنيات في ذلك الوقت هن فقط من كُنَّ يتمتعن ببشرة بيضاء ناصعة، ذلك لأن جلدهن قلّما كان يتعرض للشمس مقارنة بالنساء الفقيرات، فقد كُنّ يقضين الوقت الأطول في المنزل، وعندما يخرجن غالبًا ما يرتدين عباءات وقبعات طويلة، لإخفاء أنفسهن عن أعين عموم الرجال، وبالتالي يختفين عن الشمس، فعندما تكون المرأة بيضاء فهذا يدل على أنها تنتمي إلى عائلة ثرية، مرفهة، لا تعمل. على العكس من ذلك، إذا كانت بشرة المرأة شاحبة، سمراء، فتلك علامة على أنها تعمل في الشمس أو في السوق أو في الحقل، وذلك ما تفعله النساء الفقيرات فقط.
كانت معظم المدن اليونانية فقيرة، بالتالي فإن عمل النساء الفقيرات كان ضرورة لا بد منها لكسب قوت العيش، فكن يعملن في الحقول مع الرجال في وقت الحصاد، أو يبعن الطعام والملابس في الأسواق.
أما النساء اليونانيات الثريات، فقد كان لهن سبب مهم للبقاء في المنزل: فهذا هو المكان الذي أراد لهن أزواجهن أن يكونوا فيه. ولكن ماذا تفعل المرأة اليونانية في المنزل؟
إذا كانت تنتمي إلى عائلة ثرية باذخة، فإنها تشرف على العبيد أثناء قيامهم بالأعمال المنزلية، وفي بقية الوقت فإنها تستقبل أو تزور نساء طبقتها، أما النساء اللائي لديهن ظروف أكثر تواضعًا، فإنهن يقمن بتحضير وجبات الطعام وأعمال التنظيف، لكن لا يقمن بالشراء، فتلك المهمة يُعهد بها إلى العبيد.
ضمن إطار آخر، لم تذهب الإناث اليونانيات إلى المدرسة مطلقًا، أما اللواتي تعلمن القراءة والكتابة، فمعظمهن تعلمنها بوساطة أمهاتهن.
لقد كانت المرأة المتعلمة تتمتع بالكثير من القوة، وكانت مُهابة لدرجة أن قيل فيها: "إن تعليم الحروف للمرأة، لهو خطأ خطير، كيف نمنح المزيد من السم لثعبان سام للغاية".
أحوال الزواج
بين القرنين السادس والثامن قبل الميلاد، كانت المرأة العادية لا تزال تعتبر هدية، فيما عدا مدينة آتون (وهي مدينة كانت تقع بالقرب من إسبارطة). هناك، كان وضع العروس مختلفًا تمامًا، على العكس من إسبارطة التي كانت مشتهرة بالتخلف وعدم مراعاة "وجود" المرأة. إذًا فإن المدينتين امتلكتا تصورًا مختلفًا لمجتمع اليونان القديمة وتكوينه آنذاك. ضمن هذا الإطار، كانت هناك "مدن ساخنة" و"مدن باردة"، وفقًا لتصنيف ليفي شتراوس، أما المدن الباردة، مثل إسبارطة، فقد قررت إبقاء المرأة في المنازل وقصر عضوية مشاركتها في المجتمع عن طريق مالكها (زوجها) فقط. بينما "المدن الساخنة، مثل أثينا، فقد أخرجت المرأة من "غيتو المنازل" لكن لم تلغ تقييدها من ملكية زوجها، فكانت إذا تحدثت، تتحدث إلى زوجها وهو بدوره ينقل مطلبها.
كانت المرأة الإغريقية ضحية اختراعات الديمقراطية والتقليدية على الدوام
في المدن الباردة، كانت العروس بمثابة هدية تقدم إلى شخص ما، بينما في المدن الساخنة، فإنها معرضة إلى الأبد لسلطة زوجها الذي اشتراها بواسطة المهر. باختصار، كانت المرأة ضحية اختراعات الديمقراطية والتقليدية.
صورة المرأة في الإلياذة
لقد تم وصف المرأة وحياتها ضمن "المنازل" في الإلياذة (هوميروس 700 ق.م) بشكل دقيق. لكن قبل ذلك، يجب فهم معنى كلمة "منزل" في الأدب اليوناني القديم. فمفردة "منزل" عبارة عن رمزية، حسب هوراس، تمثل: البيت نفسه، محتوياته، قطعة الأرض، عدد المواشي المملوكة، إضافًة إلى مجموعة من العناصر الكمالية، مثل الموقد، والسقف المرتفع، والجدران، وما إلى هنالك. لقد كانت تلك الكماليات مهمة للغاية بالنسبة إلى الفرد اليوناني، حيث كانت تسهم في تحديد وضعه الاجتماعي، الذي لا يترقى خلاله إلا وأن يكون له اسم معترف به من قبل والده أمام الشيوخ، وبالتالي فإن مجموعة الأشخاص الذين لديهم أب اعترف بهم، يصنفون ضمن فئة مرموقة يطلق عليها اسم "السكان الأحرار". هؤلاء لديهم اسم ومنزل، على العكس من الأفراد غير الأحرار في مجتمع هوميرس، ممن ليس لديهم منزل أو اسم أو أب اعترف بهم. إذًا؛ لقد كان المنزل، بمفهومه القديم كاملًا، علامة مهمة لتحديد قيمة الفرد في المجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الأبدية ويوم".. الشاعر والطفل
مثلما اعتُبر المنزل مهمًا لتحديد قيمة الفرد اليوناني، كذلك فإن الأرض المملوكة سمحت له بترقية تسلسله المجتمعي، فكما كانت هناك منازل تحتوي على قطعة أرض واحدة فقط، كانت منازل أخرى تمتلك عددًا من الأراضي، بالمقابل كان تحتوي عددًا أكبر من أولئك الذين لا يمتلكون منازل خاصة بهم، ويعملون في أراضي الآخرين.
إن امتلاك قطعة أرض سمحت بالاندماج في المجتمع السلطوي، وعليه فإن امتلاك عدة أراضي يعني امتلاك عدد أكبر من العمال، والعبيد، والأموال، بمعنى آخر يعني امتلاك السلطة.
ضمن هذا المنحى، ومثلما كان المنزل إلى جانب الأرض بمثابة ثروات خاصة تحدد المكانة المجتمعية للفرد، إلّا أنهما يأتيان في درجة ثانية تلي عنصر التأسيس الأول للمنزل: "الزوجة".
تحضر الزوجة من خلال زواج شرعي مستمر متسلسل من زيجات سابقة معروفة بشرعيتها ومشهود لها (بنت، أم، جدة... إلخ). باعتبار أن هذا العنصر المهم في تكوين المنزل، سوف ينجب أطفالًا شرعيين، أصحاب رتبة في المجتمع، على عكس النساء الأخريات اللائي أنجبن عبيدًا لا يعترف بهن.
إن منطق المجتمع في ذلك الوقت، جعل من المرأة جزءًا من الثروات.
في مجتمعات هوميروس، كان المنزل بأكمله مبنيًا على الزواج الشرعي، وهو ما يجعله قائمًا مستمرًا.
ضمن هذا الإطار، فقد تم نقل الأسماء والأصول عن طريق الميراث، ولم يسمح إلا للورثة الشرعيين استخدامها، أما "اللقطاء" فقد كانت حصصهم من الميراث مقتصرة على الماديات إن وجدت، دون أن يتمتعوا بأي تشريع أو اعتراف.
في منحى آخر، كانت هناك قواعد صارمة للغاية فيما يتعلق بالحياة الجنسية لأغراض الإنجاب، في حين لم تكن هناك قيود على النشاط الجنسي الممتع، فقد كانت المنازل الهوميرية العظيمة ممتلئة بالخليلات. وتم فرض كل هذه القواعد وإكثار الخليلات في المجتمع لتثبيط تعدد الزوجات، بسبب الخوف من توسع المنازل الكبيرة أو حدوث تضخم سكاني.
هناك ثلاث نقاط أساسية تساعدنا على فهم أدق لمفهوم المنازل اليونانية:
- لم تختلط المنازل فيما بينها، فقد بقي الأبناء الذكور في المنازل، بينما ذهبت الإناث كزوجات في بيوت أخرى.
- كانت البيوت عبارة عن غيتوات منغلقة، بهدف المحافظة على النسل الأصلي، فإذا كان للمنزل فقط أبناء ذكور، رحب بالزوجات لإدامة النسل. أما إذا كان في المنزل إناث فقط، فلا يتم استقبال صهر غريب فيه، حتى وإن كان المنزل كبيرًا، بل تذهب الزوجة إلى منزل الزوج.
- كانت المنازل تتجزأ داخليًا في حالاتين فقط؛ الأولى، عند وفاة الأب، فيقتسم الأبناء الميراث، ويستقروا بشكل منفصل، ضمن المنزل، والثانية عندما يأخذ الأب زوجًا ثانية، بالتالي يقوم بتجزيئ المنزل.
ضمن منحى آخر، قد سُمح للنساء الثريات بالاختلاط في المجتمع اليوناني في بعض الأحيان، حيث كانت الأعياد الدينية مناسبة لتجمعهن أمام العامة، أيضًا إذا كانت هناك مناسبة عائلية معينة، مثل ولادة طفل أو وفاة شخص ما.
التغييب المتعمد لدور المرأة في اليونان القديمة لا يعود غريبًا عندما نقرأ رأي الأدباء والوعّاظ اليونانيين بالمرأة
بسبب ذلك، قليل من النساء كن مشهورات على صعيد المجتمع بحكمتهن أو سلطتهن، فلم يصل إلينا إلا أسماء قليلة أجدرها بالذكر ثارجيليا من ميليتو التي كان لها دورًا مهمًا في معركة ماراثون (490 ق.م) الأثينية الفارسية، المعركة التي أنهت بدورها الهيمنة الفارسية، وكانت من ميليتو مشهورة بذكائها، حيث صحبت السياسي والشاعر الأثيني العظيم بريكليس (429 - 490 ق.م).
اقرأ/ي أيضًا: طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو
هذا التغييب المتعمد لدور المرأة في اليونان القديمة لا يعود غريبًا عندما نقرأ رأي الأدباء والوعّاظ اليونانيين بالمرأة، مثل سوفوكليس الذي نبه في ختام مسرحية إلكترا بأن: "الصمت زينة للنساء".
اقرأ/ي أيضًا: