في خمسينات القرن الماضي، وبالتحديد بعد تحول مصر من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري بعد حركة تنظيم الضباط الأحرار العسكري في 1952، كان الجيش وقتها في حاجة إلى تثبيت أقدامه وزيادة أعداد مؤيديه في الشارع المصري، فلجأ للعديد من الحيل لتوجيه العقول والرأي العام، إلى ما يرجوه. من بين تلك الحيل هي الخطابات الرنانة والشعارات الوطنية المتصدرة لصفحات الجرائد الوطنية في كل يوم، وأخيرًا اللجوء إلى الفنانيين المحبوبين لدى الشعب للتأثير عليهم من خلال أعمالهم الفنية، كأغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ في مدح الثورة وتبجيل عبدالناصر.
بعد حركة الضباط الأحرار في 1952، احتاج الجيش المصري لزيادة التأييد الشعبي له، فلجأ للفنانين المحبوبين للترويج له
كان للممثل الكوميدي المصري إسماعيل ياسين، نصيب من تلك الحيل، إذ جسد أدوارًا للجندي المصري في أسلحة الجيش المختلفة، في سلسلة من الأفلام الكوميدية بهدف الدعاية إلى التجنيد والترويج لـ"الجيش الوطني" في مواجهة المحتل الأجنبي.
اقرأ/ي أيضًا: كتب إسماعيل ياسين.. ماذا قرأ الكوميديان؟
وقبل أيام قليل، وبعد مرور عشرات السنوات على تلك الأفلام، خرج الوجه الجديد لسلاح الشؤون المعنوية الممثل محمد رمضان، معلنًا رفضه لأفلام إسماعيل ياسين التي جسدت الجندي المصري في شكل الشخص "الساذج" الغبي.
وبرغم كون هذه التصريحات لا تحمل أي إهانة أو تجريح وتعتبر محض رأي شخصي به الكثير من الصواب، إلا أن محمد رمضان قوبل بنقد واسع من محبي إسماعيل ياسين، وانقلبت الصحف والجرائد والمواقع المصرية، جرّاء تلك الواقعة التافهة، بعناوين مجتزأة وغير صادقة المحتوى، لجذب القراءات العديدة.
وتسابق المتسابقون في نقد الممثل وتصريحاته، ووضعه موضع المجرم الذي تجرأ على إهانة المقدسات، وطالبوه بالاعتذار والتوضيح، حتى أن بعضهم سارع بنشر وثيقة قديمة تُثبت تبرع إسماعيل ياسين بمبلغ مالي لتسليح الجيش المصري خلال فترة العدوان الثلاثي، وكان هناك القليلين في الكفة الأخرى الذين دافعوا عن رأي رمضان الشخصي، ورفضوا تقديس الأشخاص مهما بلغت عظمتهم في رأي المجتمع.
يستخدم النظام العسكري نفس أساليبه القديمة البالية للترويج لنفسه، لكن مع مزيدٍ من الابتذال وانحدار الذوق الفني
انصاع محمد رمضان في النهاية للضغط الإعلامي والجماهيري، واعتذر إلى أسرة إسماعيل ياسين، رغم أنه لم يخطأ في حقه حسب التسجيل الصوتي الذي نُشر لتصريحاته، واضطر كذلك إلى تسجيل مقطع مصور يوضح فيه تصريحاته التي قال إنها فهمت بشكل خاطئ، ونشر المقطع على صفحته الرسمية على فيسبوك.
اقرأ/ي أيضًا: "كابتن رمضان".. الوجه الجديد لتسويق التجنيد الإجباري في مصر
حكاية تافهة لا تستحق كل هذه الضجة المُثارة حولها، ولكنها تعكس الكثير من المؤشرات والدلائل، حيث تلجأ القوات المسلحة المصرية إلى نفس طرق التسويق لنفسها التي باعتها للشعب منذ 60 عامًا، بلا أي إبداع أو تطوير يُذكر، بل نلحظ التدهور الواضح في سوء اختيارتها للرموز التي تمثلها، فبعد إسماعيل ياسين النجم المحبوب من أغلب المجتمع المصري بكافة فئاته وأعماره وأجياله القديمة والحديثة، يقع اختيارها على محمد رمضان، الممثل الموهوب الذي يلقى انتقادات واسعة من الجمهور وصانعي الأفلام أنفسهم، لما يقدمه من أدوار مبتذلة، تهدم المجتمع وتفسده أخلاقيًا في رأيهم.
وإذا ما نظرنا فنيًا إلى الأفلام التي قُدّمت خلال فترة الخمسينات والستينات، والأفلام التي قُدمت خلال الفترة الماضية من أجل الهدف نفسه، نجد مساحة واسعة للمقارنة الظالمة بين هذين النوعين من الأفلام، بل وحتى أحجام وأسماء النجوم التي أدت الأدوار التمثيلية، فمن روائيٍّ بحجم يوسف السباعي وممثلين قامات كشكري سرحان وأحمد مظهر ورشدي أباظة وهند رستم، في فيلم "رد قلبي"، أو إسماعيل ياسين في سلسلة أفلام إسماعيل ياسين في الجيش؛ انحدارًا إلى محمد رمضان في فيلم رديء كـ"حرّاس الوطن"، من إنتاج الشؤون المعنوية، أو شريف منير وكريم عبدالعزيز في الأفلام المخابراتية وغيرها.
يرفض الآن العديد من الممثلين والكتاب المشاهير، الوقوع في فخ تأييد النظام أو استغلالهم في أعمال تروج له
إنه انحدار يعكس التدهور الكامل في المجتمع المصري بما في ذلك الفن والثقافة والسينما والغناء، وصولًا إلى رفض رموز الفن والأدب المعاصرين من الشباب والكبار والمشهورين على الساحة العربية والعالمية، أمثال خالد أبوالنجا وعمرو واكد وعلاء الأسواني وغيرهم الكثير، الوقوع في فخ تأييد النظام أو استغلالهم في أعمال تروج له، بل يعارضونه صراحة في مواقف عديدة.
اقرأ/ي أيضًا: هل يوجد فن سيئ؟
تلك الطريقة القديمة ومحاولات تجميل القبح والفساد بوسائل بالية رثّة، أصبحت مكشوفة ومفضوحة، فإذا ما أراد النظام حقًا تجميل صورته الوضيعة، فعليه أن يتبع أساليبَ جديدة ليروّج من خلالها الكذب المنشود.
اقرأ/ي أيضًا: