ليس الجديد فقط أن الدولة تحاول الدمج بين استراتيجيتين متناقضتين تمامًا، استراتيجية لتأميم المجال العام والصناعات الكبرى والقضاء على كل ما هو خارج سيطرتها المباشرة، واستراتيجية أخرى للبدء في التخلي عن التزاماتها الاقتصادية والاجتماعية تجاه المجتمع، أي دكتاتورية جمال عبدالناصر ورغبته في القضاء على أي تنظيمات للمجتمع، عبر سحق بعضها وإدماج البعض الآخر في أجهزة الدولة من جهة، ورغبة جمال مبارك الحثيثة في التخلي عن ما يراه يثقل كاهل الدولة بأعباء تقيد حركتها الطبيعية من جهة أخرى.
الأمر أكثر تعقيدًا حتى من هذه الرؤية، فالدولة التي تحاول تأميم المجال العام وتتخلى عن التزاماتها الاقتصادية في الوقت نفسه، لا تقوم بذلك لصالح طبقات مدنية واسعة، مثلما كانت طبقة رجال أعمال وكبار البيروقراطيين وأغنياء الفلاحين المندمجين في منظومة الحزب الوطني في عصر مبارك، ولكن لصالح طبقات الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات، وهي طبقات صغيرة متداخلة ومنغلقة على بعضها ويصعب أن تخترقها بقية الطبقات لتشاركها صعودها الطبقي.
الدولة التي تحاول تأميم المجال العام وتتخلى عن التزاماتها الاقتصادية في الوقت نفسه، لا تقوم بذلك لصالح طبقات مدنية واسعة، ولكن لصالح طبقات الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات
كانت المنظومة التي يدير بها مبارك الدولة، بعد اقتطاع نصيب الجيش منها، منظومة مدنية في جوهرها، مجموعات من رجال الأعمال والفلاحين الأغنياء والسياسيين النفعيين ومن تبقى من كوادر الاتحاد الاشتراكي، طبقة مدنية عريضة يمكن اتهامها بالفساد والتربح والمحسوبية واستغلال مناصبها في الدولة للاستيلاء على الثروة العامة، ولكنها تبقى في التحليل الأخير، طبقة مفتوحة على المجتمع، يمكن لشخص انتهازي وطموح أن يطلب ودها ويشاركها في غنائمها تلك. قوة هذه الطبقة، انعكست على قوة النظام الحاكم، في شكله المدني، أي قوة الحزب الوطني، الذي رغم أنه لا يمكن تصنيفه كحزب سياسي، إلا أنه كان ناجحًا في مهمته كمنظومة لتوزيع الثراء والنفوذ داخل هذه الطبقات العليا، وعلى تلبية مطالب قوى نافذة في المجتمع، للاشتراك في الغنيمة.
تأميم الدولة للمجال العام حاليا، لا يقتصر على طردها للمنظمات المدنية وجمعيات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية والحركات الإسلامية من هذا المجال، ولكن أيضًا يجري تأميم الدولة نفسها من جانب آخر لصالح أجهزتها الأمنية، والدولة هنا، بمعنى جملة المنظومات المنوط بها تنظيم الاقتصاد والمجتمع، الاحتكار التدريجي للأجهزة الأمنية للإعلام وللصناعات الخدمية المهمة سواء بشكل مباشر أو عن طريق واجهات مدنية، يعني أن الطبقات القديمة التي كان يمثلها الحزب الوطني، يجري تفتيتها وإضعافها لصالح طبقات الأجهزة الأمنية المختلفة، والتي لا يمكن للعامة الانتساب إليها، أي أن هذا التأميم لا يجري لصالح خلق بيروقراطية مدنية واسعة وإدخال طبقات عريضة من المواطنين في أجهزة الدولة، مثلما فعل عبد الناصر، ولكن لمصلحة بيروقراطية عسكرية موازية لأجهزة الدولة نفسها وغير مفتوحة للجميع.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة لبن الأطفال بمصر: الوجه القبيح لبزنس الجيش!
في الوقت نفسه الذي يجري فيه هذا التأميم، تقوم الدولة بالوقت بالتخلي عن التزاماتها المجتمعية بشكل صريح، وتأتي تصريحات مباشرة من رأس السلطة عن تأخر الإصلاحات الاقتصادية التي كان يجب أن يقوم بها السادات وعطلتها انتفاضة 77، هذه الإصلاحات التي تروم بشكل عام لتصغير الجهاز البيروقراطي وإذن التخلص من عبء مرتبات الملايين، كما للتراجع بشكل تدريجي عن أي دعم كانت تقوم به الدولة لأي سلعة أو فئة مجتمعية ما.
في العادة كان يجري الحديث عن إعادة هيكلة الجهاز الحكومي والتراجع عن الدعم، في سياق الحديث عن خطة سوق مفتوح وجذب للاستثمار وإسناد المشاريع الخاصة الطموحة، أي في سياق دعم طبقات رجال الأعمال المدنيين، ليقوم هذا السوق بتوفير فرص عمل تحل محل فرص العمل التي لم تعد توفرها الدولة، ولكي لا يحدث ارتفاع حاد في نسب البطالة. لكن الجديد الذي تقوم السلطة الآن، أنها تقوم بكل هذه التراجعات، لصالح احتكار مؤسسة من الدولة لهذه المشاريع، وتستخدم في عمالتها نسبة معتبرة من المجندين، وإذن لا توفر أي حل لمشكلة البطالة. تتراجع الدولة عن التزاماتها المجتمعية من جهة، ولا تدعم صعود طبقات مدنية لمحاولة خلق سوق اقتصادي متنامي من جهة أخرى.
لا يعني هذا أن الدولة تستغني تماما عن منظوماتها المدنية من سياسيين وبيروقراطيين ورجال أعمال، ولكن يتم إعادة هكيلة هذه المنظومات وتحجيمها وتحويلها إلى مجرد أدوات لتنفيذ القرارات الإدارية، وتفقد صفتها كشريك رئيسي في منظومة القرار والثروة.
يمكن تفسير سلوك الدولة/الجيش الراغبة في التخلص من مدنييها، بعدة عوامل:
أولًا: تعتقد الدولة، والمقصود بالدولة منذ 3 يوليو 2013 المنظومة البيروقراطية التي يديرها الجيش، أن مركز تماسك سلطتها هو في تماسك سلطات الجيش والقضاء والشرطة، وأن بقية المنظومات المدنية، بما فيها المنظومات التاريخية للدولة مثل البيروقراطية ورجال الأعمال، يمكن الاستغناء عنها، بل وربما تعتبر الدولة هذه المنظومات جزءًا من المجال المفتوح الذي ينبغي تحجيمه، أي جزء من السلطات الخارجة عن سيطرتها المباشرة جدًا والتي تريد استعادتها، ولذلك تستثمر الدولة/الجيش في الترويج لعدم كفاءة أجهزة الدولة المدنية وفسادها وتمثل الحملات المستمرة على الوزراء والوزارات المدنية جزءًا من هذا الترويج، ليصبح الجيش، هو المؤسسة الفاعلة الوحيدة ذات السمعة الجيدة في الدولة.
تأميم الدولة للمجال العام حاليا، لا يقتصر على طردها للمنظمات المدنية وجمعيات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية والحركات الإسلامية من هذا المجال، ولكن أيضًا يجري تأميم الدولة نفسها من جانب آخر لصالح أجهزتها الأمنية
ثانيًا: ترى الدولة أنها محملة بأعباء اقتصادية كبيرة وبمنظومة بيروقراطية مترهلة وتفتقر للكفاءة، ولذلك تريد التخلي عنها، لكنها للسبب الأول لا تريد إسناد هذه العملية لمنظومة مدنية قد تنافس الجيش على سلطاته بالوقت، وإذن تحيل حل المشاكل التي ستنتج عن تخففها من الدعم، إلى الجيش نفسه ليكون عليه عبء مهمة خلق سوق اقتصادي كفء ومنجز وغير مدعم لكنه أرخص لكونه متخلص من كل الأعباء الضريبية ومن جزء كبير من أعباء العمالة التي يجري إسنادها للمجندين، وإذن تلبية الطلب المجتمعي بسلع رخيصة نسبيًا، ويبدو هذا في نظر السلطة، حلًا سحريًا، دون أن ترى أنه بالوقت، لن يكون الجيش مجرد منظومة اقتصادية موازية تمتلك مميزات تنافسية تضمن له النجاح، بل سيصبح بالوقت هو المنظومة الاقتصادية الوحيدة، وبالتالي سيجد نفسه في وجه مطالبات سد كل الاحتياجات المطلوبة، بما فيها أعباء البطالة التي ستتضخم.
ولعل الحديث العلني الحالي عن اقتصاد الجيش، الذي كان من المحرمات في السياسة المصرية حتى في ذروة الثورة، هو جزء بسيط مما سيحدث عندما يكمل الجيش سيطرته على الاقتصاد ويتوجه إليه النقد الشعبي الذي كان يوجه قبل ذلك للحكومة، أي أن صورة الجيش التي يرغب في رسمها لنفسه كفاعل نزيه أتى لإنقاذ المجتمع، وهو ما يظهر في إعلانه عن تدخلاته الاقتصادية ليس في شكل مشاريع علنية بل في شكل استجابة لأزمات حاصلة، هذه الصورة تنهار تدريجيًا كلما ابتعد الجيش عن هامش الاقتصاد، وأصبح هو الفاعل الدولتي الأساسي الذي يتم التوجه إليه لحل المشكلات، أي كلما أصبح هو الحكومة بشكل صريح.
اقرأ/ي أيضًا: من موسكو إلى بكين.. تيه اليسار المصري
المجتمع العاري
ثالثًا وهو الأهم، المجتمع العاري: تتوزان إجراءات الدولة دومًا مع مقاومة المجتمع لها، انتزعت الحقوق الاقتصادية الكبرى عن طريق نضالات عمالية، جعلت منها جزءًا من العقد الضمني بين الدولة والمجتمع، أو بسبب انحياز من السلطة لطبقات معينة لصالح سحق طبقات أخرى.
وترتبط قدرة المجتمع على إظهار المقاومة عند تخلي السلطة عن ما يراه حقًا له، أو عند تنكيلها به، على قدرة طبقات هذا المجتمع في تنظيم نفسها وإظهار أشباح غضبها لردع الدولة، وهنا يبدو طبيعيًا وصادقًا الربط بين تراجع السادات عن "الإصلاحات الاقتصادية" وبين انتفاضة 77، التي جعلت مبارك من خلفه يحجم أيضًا عن القيام بأي تخلٍّ سريع عن هذه الالتزامات، ما الجديد إذن؟
الجديد أنه من بعد حكم الجيش المباشر منذ 3 يوليو، وقدرته على سحق تيار عريض من الطبقة الوسطى، يمثله الإخوان المسلمون، ثم قدرته على ردع وتفكيك بقية الأشكال التنظيمية للطبقة الوسطى، من علمانيين ويساريين وحقوقين وحركات عمالية، أصبح المجتمع للمرة الأولى، منذ انتفاضة 77 مكشوفًا أمام الدولة، عاريًا تمامًا من أي قدرة على تخويفها بالانتفاض، فهي قد سحقت بالفعل جزءًا من الطبقة الوسطى المتعلمة ممثلًا في الإخوان، سحقًا تامًا، بدون أي قدرة على المقاومة، واكتسبت ما تعتقده قدرة على سحق أي انتفاضة أخرى تجريها أي تنظيمات مدنية، بعد أن أفقدت الدولة هذه التنظيمات والشرائح المدنية كل أدواتها الإعلامية والسياسية ثم أخيرًا الاقتصادية، أصبحت الطبقة الوسطى عارية أمام الدولة، بلا تنظيمات ولا أحزاب ولا حركات يمكنها التفاوض مع الدولة على حلول وسط، ومن هنا يمكن رؤية إصرار الدولة/الجيش على عدم خلق ظهير مدني حقيقي، أي يشترك جديًا في اتخاذ القرار وفي تقسيم الغنائم، مثل الحزب الوطني، على كونه رغبة متجذرة في العدم السماح بظهور أي تنظيمات مدنية قد تريد في وقت ما حماية مصالحها الاقتصادية التي قد تتعارض مع رغبات الدولة/الجيش.
كانت عملية سحق الإخوان بشكل تام، وهم من خلال الذين صعدوا كطليعة للمتعلمين المحافظين للشرائح الدنيا في الطبقة المتوسطة المتحصنة بنجاحها المهني، منفذًا للدولة، لسحق الطبقة كلها وشل قدرتها على الوقوف أمام السلطة، للمطالبة بأي حقوق، ورغم أن شرائح واسعة من هذه الطبقة، هي من تصدرت الجماهير للمطالبة بالإطاحة بالإخوان، إلا أن هذا لن يشفع لها أمام السلطة. كما أن التنكيل العام بالإخوان، الذين يمثلون جزءًا أصيلًا من هذه الطبقة، جعل استباحة الطبقة الوسطى أمنيًا أكثر سهولة، بعدما كان يمكنه لبعض منتسبيها الاحتماء من القمع وقت مبارك بوضعهم الاجتماعي، أو بنجاحاتهم المهنية أو الأكاديمية، ويمكن أن تلمح أشباح هذا الاحتماء بالنجاح، في تذكير النشطاء والسياسيين عند وقوع انتهاك على شخص معين بأن هذا الشخص طالب في كلية كذا أو دكتور ناجح في تخصص كذا، وغيرها من النجاحات التي كانت تحميهم مسبقًا من تنكيل الشرطة بهم.
عانت الطبقات العمالية المصرية من ضعف تاريخي جعلها مهملة على الدوام من أي حسبة سياسية ومستباحة أمام العنف الأمني، واليوم تنضم إليها الطبقات الوسطى بشرائحها الدنيا والمتوسطة والعليا وبعض شرائح الطبقة العليا نفسها، ليكونوا جميعا مكشوفين أمام الدولة، بلا قدرة على حماية أنفسهم، وبدهشة حقيقة من قدرة الدولة على الإيغال في سلبهم ما اعتبروه مميزات لا يمكن التراجع عنها، لتتحقق أخيرًا مساواة حقيقية في كافة الطبقات المدنية، كلها لا يمكنها الدفاع عن نفسها وكلها عرضة لبطش الدولة وكلها يتم إقصاؤها من المشاركة في إدارة القرار والثروة والدولة، التي لم تعد بعد الآن، في أيدي طبقات المدنيين العليا.
اقرأ/ي أيضًا:
في باب الكتابة عن الأوغاد
الأيض السياسي
الفريضة الغائبة في الثورة المصرية