18-يونيو-2023
knj

بالغت بعض وسائل الإعلام العربية في التحذير من الذكاء الاصطناعي (التراصوت)

منذ نهاية العام الماضي، مع صدور النسخ الأولى من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل تشات جي بي تي للنصوص وميدجورني للصور وغيرهما العشرات، لم تتوقف أخبار الذكاء الاصطناعي عن تصدر كافة وسائل الإعلام، ولعل القضية الأكثر انتشارًا بين هذه الأخبار هي تأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي على مستقبل العمل والوظائف. ورغم أن التأثير المزعوم انتشر كالنار في الهشيم من وسيلة إعلامية إلى أخرى، إلا أن الرسالة المركزية واضحة: الذكاء الاصطناعي سيهدّد معظم الوظائف ويستولي على أخرى، وأن إزاحته للعاملين البشريين أصبحت مجرد وقت، فإلى أي حد يمكن أخذ هذه الادعاءات على محمل الجد بعيدًا عن المنافسة على النقرات والمشاهدات؟

في آذار/ مارس الماضي، نشر موقع الجزيرة مباشر خبرًا مفاده أن دراسةً خلصت إلى أن 80 في المئة من الوظائف ستتأثر بتطور الذكاء الاصطناعي، ويتساءل الخبر مع القارئ العربي ما إذا كانت وظيفته من بينها. مواقع أخرى نقلت الخبر بعناوين مشابهة تركز على الإحصائية وتحمل لغة عاطفيةً وصورًا تثير الخوف لدى القارئ. ورغم أن نتيجة الإحصائية صحيحة إلى حد ما، لكن الخبر مضلل على نطاقٍ واسع.

مع صدور النسخ الأولى من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي لم تتوقف أخبار الذكاء الاصطناعي عن تصدر كافة وسائل الإعلام، ولعل القضية الأكثر انتشارًا بين هذه الأخبار هي تأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي على مستقبل العمل والوظائف.

تأتي الإحصائيات المشار إليها من ورقة بحثية تتخذ طابعًا ترويجيًا لنماذج اللغات الكبيرة وتأثيرها على الاقتصاد، علمًا أنها من إعداد شركة أوبن إيه آي، الشركة المطورة لتشات جي بي تي نفسه، لكن الورقة لا تقول ببساطة إن 80 في المئة من الوظائف ستتأثر، ولا تعمم نتائجها على العالم، بل تقول إنه "يمكن أن تتأثر 10 بالمئة على الأقل من المهام الخاصة بـ 80 بالمئة من القوى العاملة في الولايات المتحدة"، ولم تأتِ على وصف ذلك التأثير أو تحديد طبيعته إن كان سلبيًا أو مهددًا لتلك الوظائف.

فيما غطّت إندبندنت عربية الورقة البحثية نفسها بطريقة مختلفة، إذ نشرت على صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي رسم إنفوغراف بعنوان "الوظائف الأكثر تعرضًا لخطر الذكاء الاصطناعي"، وفيه أدرجت جدولًا من الوظائف التي ستتأثر بالتقنية بنسبة 100%، وهو جزءٌ من جدول أوسع مُدرج في الورقة، لكن مع فرق بسيط، وهو أن المصدر لا يذكر كلمة "خطر" أو أي كلمات تنتمي لنفس الحقل المعجمي، بل يرصد نسبة استخدام تلك الوظائف للذكاء للاصطناعي في مهمّة أو أخرى.

وبدلاً من القول بأن الوظائف "يمكن أن تتأثر"، كما هو وارد في الورقة المشار إليها، تذكر الأخبار المتداولة أن الوظائف "ستتأثر"، ما يعني ضمنيًا أن التأثير على الوظائف أمر مُلحّ ومؤكد، وهو ما ينفيه باحثو أوبن إيه آي أنفسهم، إذ يوضحون أن قدرة الشركات في قطاعات مختلفة من الاقتصاد على اعتماد نماذج اللغات الكبيرة تعتمد على عدد لا يحصى من العوامل، مثل توفر البيانات لتدريب النماذج، والبيئة التنظيمية، وثقافة الابتكار داخل الشركات، على سبيل المثال لا الحصر.

kjlj

والأهم من ذلك، هو أن مجرد كون الوظيفة معرّضة للأتمتة بواسطة نماذج اللغة الكبيرة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تحل التكنولوجيا محل العاملين بتلك الوظيفة. فمثلًا، قد تكون أدوات مثل تشات جي بي تي قادرة على صياغة وثيقة قانونية في نصف الوقت الذي يمكن فيه لسكرتير قانوني بشري فعل ذلك، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن شركات المحاماة يمكنها أو يجب عليها استبدال موظفيها لصالح نماذج اللغات الكبيرة، لأن هذه الأدوات لا تزال في مرحلة يمكن فيها أن تحرف الحقائق الرئيسية وتستشهد بأدلة غير موجودة، ومن ثم تظل هناك حاجة إلى بشر يتحققون من مخرجاتها.

ما حجم التهديد الحقيقي للذكاء الاصطناعي؟

هذا ليس الادعاء الوحيد الذي يحاول التهويل بشأن خطر الذكاء الاصطناعي على الوظائف، إذ نشرت صحف ومواقع إخبارية كبرى، مثل كل من الشرق الأوسط وبي بي سي، في نهاية آذار/ مارس خبرًا يحمل نبرة عاطفية وصورًا ترهيبية تحذر من فقدان 300 مليون وظيفة في العالم مستقبلًا بسبب الذكاء الاصطناعي، وذلك استنادًا إلى تقرير حديث صادر عن بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس.

ll

وبالعودة إلى التقرير الأصلي، يقدم تقرير جولدمان ساكس بيانات عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فقط تتعلق بالمهام الوظيفية. ويحدد التقرير المهمات التي يمكن أن تضطلع بها أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، كما يحسب نسبة احتمالية تعرّض الوظائف المعنية للأتمتة من قبل تلك الأنظمة فقط. كما أن رقم 300 مليون، الذي استُنتج لعدد الوظائف، هو رقمٌ افتراضي أو تقديري، بحسب جولدمان ساكس؛ لأنه رقم مستقرأ لعدد الوظائف في جميع أنحاء العالم التي قد تتعرض يومًا ما لأتمتة جزئية أو كلية من قبل الذكاء الاصطناعي التوليدي (وليس لاستبدال تام)، دون أن يوضح التقرير موعد قدوم هذا اليوم تحديدًا، ويشترط كذلك أن الوصول إلى هذا الرقم مرتبط بإيفاء الذكاء الاصطناعي التوليدي وعوده، وهي التي أثبتت عدم واقعيتها عدة مرات حتى الآن.

ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام التي تداولت الخبر حوّلت مقياس "التعرض المحتمل للأتمتة" الذي جاء به التقرير إلى إقرارٍ بإزاحة وظيفية كاملة  لصالح الذكاء الاصطناعي.

lk

صحيحٌ أن نقل الحقائق دون أي إضافات يعد أحد أبرز مهام وسائل الإعلام في إبقاء الجمهور على اطلاع على ما يجري، ولكن هناك خطًا فاصلًا بين استخدام البيانات لسرد قصة أو للتلاعب الإحصائي. إذ إن ما حصل كان انتقاء إحصائية محددة من تقرير جولدمان ساكس دونًا عن غيرها، إضافة إلى تجاهل حقيقة أن المدونة التي نشرها جولدمان ساكس، والتي تلخص التقرير المُشار إليه أعلاه تحمل عنوان "الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7 في المئة"، وأن إحدى رسائل البحث المركزية هي أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يحل محل بعض الوظائف، ولكن يمكنه أيضًا إنشاء وظائف جديدة، والتي أظهر التاريخ أنها وظائف ذات رواتب أعلى، وفي الصناعة نفسها.

متخ

في المقابل، نجحت بعض وسائل الإعلام في نقل هذه الرسالة بمزيد من الموضوعية والدقة، مشيرةً إلى أنه "بمجرد تبني نصف الشركات في العالم تقنيات الذكاء الاصطناعي، يمكن أن ينمو إجمالي الناتج المحلي للعالم بمعدل 7 في المئة سنويًا خلال السنوات العشر التالية، بحسب تقرير جولدمان ساكس. وتعادل هذه الزيادة في إجمالي الناتج المحلي العالمي حوالي 7 تريليونات دولار. ويتوقع المحللون زيادة الإنتاجية في العالم بمقدار 1.4 نقطة مئوية سنويًا في حال تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي".

lj

واختلفت التقارير والأبحاث التي استندت إليها الأخبار المتداولة في هذا الصدد، إلا أن مضمون الإثارة بقي نفسه. على سبيل المثال، نشر موقع اقتصاد الشرق مع بلومبيرغ في الأول من أيار/ مايو خبرًا بعنوان "الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا يغيران 25% من الوظائف عالميًا"، ونشرت وسائل إعلامية أخرى الخبر ذاته بعناوين مشابهة تحتوي على الإحصائية نفسها وتحمل الإقرار بحدوث التغيير نفسه، فيما لجأت أخرى، مثل أرابيان بزنس، إلى المبالغة بالتهويل واللجوء إلى مصطلحات مثل "يهدد ربع الوظائف".

loj

واستندت وسائل الإعلام التي تناقلت الخبر هذه المرة إلى تقريرٍ صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، وأشار  إلى أن "ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي التي تستخدم الآلات لمحاكاة التفكير البشري وحل المشكلات، سيكون له تأثير واضح بشكل خاص من خلال استبدال وأتمتة عدد من الوظائف التي تنطوي على التفكير والتواصل والتنسيق" وستتغير 25% من الوظائف حول العالم نتيجةً لذلك.

lmk;kj

لكن بالعودة إلى تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي المشار إليه، الذي درس حالة 803 شركات حول العالم، توظف مجتمعة أكثر من 11.3 مليون عامل في 45 اقتصادًا من جميع مناطق العالم، يتضح أنه لم يحمل صيغة الإقرار بالتغيير التي حملتها العناوين الإخبارية، وكما في ورقة أوبن إيه آي، لم يقتصر ذلك التغيير على التهديد أو زوال الوظائف المتأثرة.

بحسب التقرير، يتوقع أرباب العمل الذين استطلعت آراؤهم، حدوث تغير هيكلي في سوق العمل بنسبة 23 في المئة في السنوات الخمس المقبلة، وليس 25 في المئة كما هو متداول، ورغم أن الرقمين يبدوان متقاربين، إلا أن فرق الـ 2 في المئة بين التقرير والأخبار المتداولة تعني قرابة الـ 226 ألف وظيفة بالنسبة لحجم العينة المدروسة. كما ينوّه التقرير إلى أن ذلك التغير يشكل مزيجًا من الوظائف الناشئة المُضافة والوظائف المتراجعة التي ستلغى، ولم يربط التقرير هذه التغيرات بالذكاء الاصطناعي فقط، بل بعدة عوامل مستقبلية أخرى مثل تحولات الطاقة، وعوامل الاقتصاد الكلي، والتحولات الجيوسياسية وتحولات سلاسل التوريد، لكن وسائل الإعلام قررت تجاهلها جميعًا.

أصبح تمييز الادعاءات حول الذكاء الاصطناعي أكثر صعوبة، فإذا لم يستطع القراء، والأهم من ذلك صانعو السياسات، فعل ذلك، فقد يتخذون قرارات بناءً على مخاوف أو صخب إعلامي لا أساس له من الصحة

ومن أجل الوصول إلى مقاربة حول التأثير الإجمالي لنمو الوظائف عالميًا، أسقط التقرير نتائج استطلاعاته للعيّنة المذكورة أعلاه على قاعدة بيانات من منظمة العمل الدولية تشمل 673 مليون عامل، في وسيلة للحصول على استقراء إرشادي لحجم القوى العاملة العالمية. وبالمحصلة، يتوقع التقرير نموًا هيكليًا للوظائف يبلغ 69 مليون وظيفة وتراجعًا بمقدار 83 مليون وظيفة خلال السنوات الخمس القادمة، أي صافي انخفاض قدره 14 مليون وظيفة، أو 2 في المئة فقط من العمالة الحالية.

l

النسخة الأخطر لم تكشف بعد

منذ أيام، نشرت سكاي نيوز عربية خبرًا بعنوان "​​مايكروسوفت تكشف عن "AGI".. النسخة الأخطر من الذكاء الاصطناعي"، لا يخوّف من خسارة الوظائف لصالح الذكاء الاصطناعي كما في الحالات السابقة، لكنه يحمل لغة عاطفية تثير مخاوف بشأن تهديدات الذكاء الاصطناعي باستخدام كلمة "أخطر"، كما يحتوي على معلومة خاطئة.

إذ إن مايكروسوفت في الحقيقة لم "تكشف" عن AGI (الذكاء الاصطناعي العام) ولم تطوّره، والذكاء الاصطناعي العام هو مصطلح يطلق على المرحلة التي يصل إليها الذكاء الاصطناعي بحيث تصبح لديه القدرة على فهم أو تعلم أي مهمة فكرية والتي يستطيع الإنسان القيام بها. ويشكك عدة باحثين بإمكانية تحقيق ذلك في المقام الأول، بل نشرت دراسة استعرضت فيها نتائج اختبار نموذج GPT-4 الذي طورته شركة أوبن إيه آي، بعنوان "شرارات بداية الذكاء الاصطناعي العام: تجارب مبكرة مع GPT-4".

lmj

وفي الدراسة، يحرص باحثو مايكروسوفت على وصف أداء GPT-4 بأنه "مجرد خطوة أولى نحو سلسلة من الأنظمة التي تزداد ذكاءً بشكلٍ عام". كما سلطوا الضوء مرارًا وتكرارًا على حقيقة أن هذه الورقة تستند إلى "نسخة مبكرة" من نموذج GPT-4، كانت خاضعة للدراسة بينما كان النموذج قيد التطوير بواسطة أوبن إيه آي، وأنها ليست بالضرورة النسخة التي اعتُمدت في نسخة تشات جي بي تي الأخيرة.

kj

من طلب التنظيم أولًا؟

وفيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي وعلاقته مع المشرّعين، نشر موقع "إكسفار" التقني يوم 17 أيار/ مايو مقالًا بعنوان "مبتكر “ChatGPT” يدعو لتنظيم التكنولوجيا.. هل تستجيب واشنطن؟"، وهو صحيح بشقّه الأول، فبالفعل، أكد سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي، على أهمية وجود لوائح لضمان التنظيم الصحيح، ووجوب امتلاك الحكومة صلاحية سحب تراخيص الذكاء الاصطناعي في حالة عدم امتثال الشركات للقواعد.

kj

لكن الجزء الثاني من العنوان حمل تضليلًا على شكل تساؤل، ليبدو وكأن سام ألتمان هو من بادر لتنظيم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بينما يُنتظر الآن رد واشنطن على مطالباته، إلا أن ما حدث في الواقع كان العكس تمامًا، فكلام ألتمان أعلاه كان ردًا على تساؤلات أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، عندما دُعي، برفقة ساتيا ناديلا رئيس مايكروسوفت التنفيذي وصنّاع قرار آخرين في الصناعة، للاستماع لمخاوفهم وتقديم حلول لها في سبيل تحقيق "ذكاء اصطناعي مسؤول"، بحسب وصف البيت الأبيض.

التركيز على المشكلة الخاطئة

وعليه، من المؤكد أن كتابة هذه العناوين جاذبة للانتباه، لكنها تغفل الجوهر الحقيقي لمصادر معلوماتها، إذ تعزز هذه الأخبار التي تزيد المخاوف بشأن استيلاء الذكاء الاصطناعي على الوظائف، تعزز انتشار مغالطة "كتلة العمالة"، وهي فكرة ادعاء أن هناك قدرًا ثابتًا من العمل، وبالتالي فإن نمو الإنتاجية، بفعل الأتمتة مثلًا، سيقلل من عدد الوظائف. إلا أن البيانات تروي قصة مختلفة، فقد نمت إنتاجية العمل بشكل مطرد خلال القرن الماضي -حتى وإن كان هذا النمو أبطأ مؤخرًا- واقترب معدل البطالة من أدنى مستوياته على الإطلاق.

ومن جانب آخر، أصبح تمييز الادعاءات حول الذكاء الاصطناعي أكثر صعوبة، فإذا لم يستطع القراء، والأهم من ذلك صانعو السياسات، فعل ذلك، فقد يتخذون قرارات بناءً على مخاوف أو صخب إعلامي لا أساس له من الصحة. والأسوأ من ذلك هو أنه يمكن لمثل هذه الادعاءات أن تصرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية المتعلقة بأنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل السرقة الفكرية واختلاق المعلومات.