تستعرض هذه المقالة سيناريو افتراضيًا تنجح فيه محاولة الانتقال الديمقراطي في ليبيا بعد سقوط النظام السابق، وتلقي الضوء على إمكانات النظام الديمقراطي ودولة المؤسسات- في حال استقرار التجربة بعد دعمه وتلافي عثراتها المبكّرة وتوفّر التوافق حولها وعدم الانقلاب عليها- على مواجهة التحديات المختلفة والتعامل بكفاءة أعلى حيالها، أو في أسوأ الظروف ملاحقة المسؤولين عن أية كارثة يضاعف التقصير الرسمي من خسائرها المادية و/أو البشرية.
كُتبت هذه المقالة باستخدام نموذج "جي بي تي-4"، وخضعت لعملية تحقّق وتحرير لغوي وأسلوبي من قبل فريق التحرير في موقع ألتراصوت.
في أعقاب احتجاجات الربيع العربي، برزت عدة تجارب ناجحة للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية، بعد فترة وجيزة من الاضطرابات المركبة، كان من بينها تجربة ليبيا، والتي ينظر إليها كثير من المتابعين والباحثين باعتبارها نموذجًا للصمود الديمقراطي والتعاون الإقليمي والدولي المسؤول والفاعل. فبعد سنوات من التوتر وضعف الاستقرار السياسي، نتيجة عقود من الاستبداد، نجحت النخب السياسية في أداء دورها المأمول في تلك الفترة الحرجة، والذي تجلى في جوانب عديدة، من بينها الإصرار على التزام المبادئ والقيم الديمقراطية والحوار المستمر وتفعيل دور الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني في تعزيز الثقافة المدنيّة والإجماع على الدولة وفق مبادئ المواطنة المتساوية والهوية الوطنية المشتركة. كما نجحت النخب الليبية في الاستفادة من سبل الدعم من المجتمع الدولي، وهو ما سمح بتمكين فرص الاستقرار الاقتصادي ومنح الليبيين الأمل بجدوى التنمية وتحسن ظروف المعيشة المترافقة مع التحوّل السياسي في عموم بلادهم، والتخلص من عسف النظام البائد وأجهزته الأمنية، وهو ما أسفر بالمحصلة عن تحول وطني ما يزال المدى الأوسع لآثاره الجانبية موضع دراسة وتحليل واهتمام في المنطقة العربية والعالم.
الديمقراطية مفتاح للاستقرار وبديل ناجع عن الاستبداد
ثمة وجهات نظر متباينة وتجارب عديدة حول مسألة العلاقة بين الديمقراطية وبناء الأمم وتحقيق التنمية، وما إذا كان لنوع النظام أثر في الأداء الاقتصادي. ورغم أن الموضوع بالغ التعقيد ويعتمد على عوامل عديدة، إلا أن الليبيين أثبتوا خلال العقد الماضي أن الديمقراطية ليست حكرًا على أحد، وأنها في الحالة الليبية كانت عاملًا فاعلًا في ازدهار البلاد وتحسّن مؤشّرات أدائها المالي والاقتصادي، وتحسين معدل دخل الأفراد ورفع الجودة العامة لمعيشتهم. ورغم عديد العقبات التي واجهت ليبيا في المرحلة الانتقالية، إلا أن الموقف المسؤول من المجتمع الدولي في مساندة الليبيين، ووجود حكومة مستقرة ومسؤولة، أخذت على عاتقها مسؤولية تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للدخل ومحاربة ثقافة الفساد، وتعاونت بشكل شفاف مع فريق من الخبراء والمستشارين من داخل البلاد وخارجها، أسهم في تحقيق التعافي التدريجي للاقتصاد الليبي، وخلق بيئة تشجع على الاستثمار في مختلف القطاعات.
وقد تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليست غير ملتبسة، خصوصا في سياق قدرة الأمم على التصدي للكوارث الطبيعية، فذلك موضوع مناقشة وجدال مستمرين. لكن على الرغم من ذلك، ومع التسليم بأن العلاقة بين الأمرين قد لا تكون دائماً واضحة أو متلازمة، إلا أن هناك العديد من الجوانب الرئيسية التي يجدر النظر فيها عند اعتبار التأثير المحتمل للنظام الديمقراطي في قدرة الدول على مواجهة الكوارث، ومنها:
- المساءلة والشفافية
الدول الديمقراطية تعمل عادة عبر حكومات أكثر شفافية وأكثر اهتمامًا بالمساءلة الرسمية والشعبية. تمتد هذه الشفافية إلى استعدادات التصدي للكوارث وجهود الاستجابة. ففي الديمقراطيات، يكون من حق المواطنين الوصول إلى المعلومات، وغالبًا ما تكون الحكومات ملزمة بمشاركة البيانات حول مخاطر الكوارث، واستراتيجيات التقليل من تأثيرها، وخطط الاستجابة. هذا المستوى من الشفافية يمكن أن يسهل تنسيق استجابة أفضل للكوارث مقارنة بالدول غير الديمقراطية.
- المسؤولية المجتمعية والانخراط بالشأن العام
في المجتمعات الديمقراطية، يكون للمواطنين دور في عمليات اتخاذ القرار والدفع نحو تحسينها،إذ يمكنهم التعبير عن مخاوفهم، والمطالبة بوجود معايير وإجراءات وفق أفضل الممارسات العالمية المعتمدة. وعندما يتعلق الأمر بالكوارث الطبيعية، يمكن لجماعات المواطنين الفاعلين في الحيّز العام وعبر المؤسسات المدنية الحرّة أن يدفعوا باتجاه سياسات تعطي الأولوية لتقليل مخاطر الكوارث، وتطوير البنى التحتية، والاستعداد للطوارئ، ويشمل ذلك العدالة في توزيع الموارد بين المناطق المختلفة للدولة، والتصدي للفساد الذي قد يحول دون الاستفادة منها على الشكل الأمثل.
- التعاون الدولي
يمكن المجادلة بأنه عادة ما تحظى الدول الديمقراطية ذات السجل الجيد في مؤشرات الحريات العامة والشفافية والعدالة وحقوق الإنسان بصورة إيجابية على الساحة الدولية، مما يعزز التعاون معها وتحسين فرصها بالحصول على المساعدات من دول أخرى في الأزمات الطارئة. هذه الشراكات يمكن أن تؤدي إلى زيادة الدعم والموارد لجهود إغاثة الكوارث والاستعادة، كما أن المجتمع الدولي قد يكون أكثر استعدادًا لتقديم المساعدة للدول التي تحترم القيم الديمقراطية.
- التخطيط طويل المدى
عادة ما يكون لدى الدول الديمقراطية أنظمة سياسية أكثر استقراراً، خاصة بعد ترسيخ قواعد اللعبة الديمقراطية وبناء التوافق عليها وتطويرها، وهو ما يسمح بالتخطيط على المدى الطويل واستمرارية السياسات واستدامة جدوى الاستثمار فيها. هذا الاستقرار يمكن أن يكون مفيدًا لتنفيذ استراتيجيات شاملة لتقليل مخاطر الكوارث، والتي غالبًا ما تتطلب جهدًا مستدامًا على مر السنوات أو حتى العقود.
ومع ذلك، يظل من الضروري الاعتراف بأن العلاقة بين الديمقراطية ومقاومة الكوارث ليست دائماً معطى حتميًا. فقد تواجه بعض الديمقراطيات، خاصة في مراحل الانتقال، صعوبة في التعامل مع الفساد أو التشظي السياسي أو ضعف السياسات المالية التي تعيق إدارة الكوارث بفعالية. وبالمقابل، فإن الأنظمة السلطوية هي الأخرى قد تنجح في حالات معينة في التعامل مع مثل هذه الظروف، بالنظر إلى رغبتها في الحفاظ على سيطرتها أو تعزيز صورتها على الساحة الدولية، واستثمار ذلك لأغراض شعبوية.
الديمقراطية سدّ منيع أمام الطوفان
في حين ينظر الليبيون اليوم إلى الديمقراطية وقيمها باعتبارها السدّ المنيع ضدّ عودة الاستبداد والعسف بالسلطة والضامن لحماية حقوق الناس وحرياتهم وكرامتهم، فإن الظروف التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة جراء التقلبات المناخية قد أثبتت أن النظام الديمقراطي ونجاح تجربته في البلاد قد كان سدّا حاميًا ضد كارثة كادت لتكون مدمّرة في ظروف مختلفة.
أحد هذه الأمثلة الملهمة التي أظهرت نجاعة الحكومة الديمقراطية الناشئة تبدّت إبان توارد الأنباء بشأن فيضان عارم في شرق البلاد، حين تسببت التوقعات في حصول هطولات هائلة من الأمطار جراء عاصفة إعصارية في إطلاق سلسلة من تحذيرات رسميّة مسبقة لسكان المناطق المحاذية للساحل لتوخّي الحذر وإخلاء المنطقة بشكل عاجل. فقد استجابت الحكومة لتحذيرات خبراء الأرصاد الجوية، ورصدت الإمكانات اللازمة، كما تم العمل على تفريغ السدود بشكل استباقي، وتقديم الدعم لسكان المنطقة للوصول إلى مناطق آمنة، لتجنب تهديد فيضان كان من المتوقّع أن يودي بآلاف الأرواح. كما قامت السلطات المحلية، بدعم من الحكومة المركزية ومنظمات الإغاثة الدولية، بتنسيق جهد إخلاء ضخم غير مسبوق في تاريخ البلاد، إذ تم نشر فرق الاستجابة الطارئة وتنفيذ الخطط وتقديم الضمانات للسكان بإعادة البناء. كما ساعد التواصل الشفاف للحكومة ونشر المعلومات الأساسية في إبقاء المواطنين على اطلاع بما يحصل.
ويرى مراقبون أنه قد كان من الممكن أن تخرج هذه الكارثة عن السيطرة لو أنها وقعت في ظل حكم النظام السابق، ولاسيما بسبب حالة التهميش التي تعاني منها هذه المناطق، وانعدام الكفاءة البيروقراطية ونقص المساءلة العامة، وعدم إيلاء الاهتمام بصيانة وتطوير السدود، والافتقار إلى قوانين وخطط للتعامل مع الكوارث البيئية. في المقابل، فإن الاستجابة الاستباقية لكارثة الفيضان في درنة وما جاورها قد عزي إلى وجود حكومة ديمقراطية فعالة ومسؤولة، نجحت في اتخاذ إجراءات سريعة للحد من الخسائر في الأرواح والممتلكات.
الطريق إلى المستقبل
رحلة ليبيا نحو الديمقراطية وترسيخها لا تخلو من تحديات، والطريق إلى المستقبل قد ما يزال محفوفًا بالعقبات والانتكاسات المرحلية المحتملة، ومع ذلك، يعتبر تقدم البلاد في العديد من المؤشرات الأساسية، والتعاون المسؤول بين النخب السياسية والمثقفة على حل التوترات بين المجموعات الاجتماعية المختلفة والالتزام التوافقي على الخيار الديمقراطي، ودعم تعميم التعليم والصحافة الحرّة ضمن هذا الإطار، إشارة إلى القوة الجامعة للقيم الديمقراطية، ولاسيما عندما يتوفر الدعم من قبل المجتمع الدولي عند التزامه بمسؤولياته تجاه الدول في مراحل الانتقال الديمقراطي.
في الختام، إن رحلة ليبيا نحو الديمقراطية، قد وضعت الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا، يتخلص فيه من الليبيون من إرث الاستبداد والسلطوية، ويقدمون مثالًا واقعيًا للدول الأخرى في المنطقة والعالم يذكّر بالقوة الدائمة للقيم الديمقراطية في بناء الأمم وإيجاد مجتمعات مواطنيّة مستقرة وقادرة على مواجهة مختلف أشكال التحديّات والتعامل معها.