11-أكتوبر-2017

العشّاب محمد بن عامر (الترا صوت)

تزخر المدوّنة الشّعبية في الجزائر بنخبة من الأمثال والحكم والمحكيات، التي تشيد بحكمة العشّابين والرّقاة والحجّامين، منها "اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب". ممّا يحتّم علينا إعادة الانتباه إلى مدى مساهمتها في جعل نشاط هؤلاء، في السنوات العشر الأخيرة، قويًا وبارزًا ومنافسًا لنشاط الأطباء والنّفسانيين، الذين تخرّجوا من الجامعات.

يعتبر البعض أن ازدهار الطب الشعبي في الجزائر هو ثمرة للمرحلة الاستعمارية التي تجذر خلالها

يرى الطبيب ياسين عبد الجبّار أنّ الإرث الشّعبي المتعلّق بالطبّ الشّعبي أو ما يعرف بالطبّ البديل، من الأمثال والحكم، هو "ثمرة للمرحلة الاستعمارية، التي كانت تحرم الجزائريين من العلاج في المستشفيات الرسمية، التي كانت حكرًا على المستوطنين الأوروبيين، فكانت الأعشاب والرقية والحجامة والأحجبة، التي يكتبها أئمة ومشعوذون، بديلًا لذلك الوضع".

اقرأ/ي أيضًا: الحجامة في الأردن.. سلطة الموروث بلا رقيب

في العقود الأربعة، التي تلت الاستقلال الوطني، 1962، يقول محدّث "الترا صوت"، "أدّى انتشار المؤسسات الاستشفائية ومجّانية العلاج فيها وارتفاع نسبة التعليم شبه العلماني، إلى تراجع ملحوظ لسلطة العشّاب والراّقي والحجّام والمشعوذ، أمام سلطة الطبيب، لكن حدثت انتكاسة، بعد ذلك، لأسباب موضوعية، جعلت العكس هو السّائد، فباتت الجزائر العاصمة وحدها، بصفتها الحاضرة الأكثر انتصارًا للرؤية العلمية، تتوفر على 300 محلّ للأعشاب والخلطات الشعبية".

يذكر الباحث سعيد جاب الخير بعض تلك الأسباب بالقول: "تراجع السؤال المعرفي والعلمي لصالح السؤال الدّيني والغيبي في الشارع الجزائري، في العقد الأخير، تحت طائلة المدّ الوهابي السّعودي، الذي يجد تساهلًا وتسهيلًا من الحكومة لحسابات سياسية ضيّقة، حتى أن كثيرًا من الأحاديث والمداخلات الدّينية، التي تبثّها قنوات فضائية وطنية يقدّمها رجال دين سعوديون، وكأن الجزائر لا تملك هوية فقهية خاصّة بها، وليس لها علماء وأئمّة وباحثون في هذا الباب".

ويضيف صاحب كتاب "التصوّف والإبداع": "يجب ألا نغفل أيضًا عن انتشار الفضائيات المتخصّصة في ما يسمونه الطبّ النبوي والرّقية، ودورها في زرع ثقافة اللجوء إلى العشابين والرقاة والحجامين، بدل الأطبّاء والنّفسانيين، على أساس أن ذلك من السنّة النبوية، فباتت القناة أقرب إلى الشعوذة منها إلى العلم، مثل قناة "الحقيقة" المهيمنة على البيت الجزائري، رغم أن الكثيرين رفعوا عليها دعوات قضائية، بسبب ما وصفوه بتحايل القناة عليهم".

في قلب مدينة الأغواط، 400 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، يأتي يوميًا العم محمد بن عامر على بعد 70 كيلومترًا، فيفترش الأرض، واضعًا أمامه جملة من الأعشاب والحبوب البرّية، فلا يبقى منها شيء قبل فترة الزّوال. زعتر وعرعار وقشور رمّان وحلبة وشيح ونعناع مجفّف وبابونج ويانسون، "إنها أدوية مجرّبة منذ القدم. ضف إليها بركة الأجداد والأولياء الصالحين، الذين كانوا يستعملونها". قال له أحد الشباب: "صحيح أنها تتوفر على عناصر طبية، فالأدوية أصلًا هي مستخلصات عشبية، لكنها ليست أدوية جاهزة. ثم إن بعضها يحمل عناصر يؤدّي تناولها إلى مرض معيّن، فنجد أنفسنا قد اكتسبنا مرضًا آخر. من هنا فلا غنى عن خبرة الطبيب والصّيدلي". تحرّج العشّاب من كلام الشاب واكتفى بالقول: "لا نعرف أكثر من الأجداد".

مكث "الترا صوت" ساعة من الزّمن بالقرب من العم سالم، ليعاين طبيعة زبائنه، فكانت النساء، على اختلاف مستوياتهنّ الاجتماعية والعلمية، أكثر الشّرائح إقبالًا عليه. ويعزو خرّيج معهد علم النفس مراد ملياني ذلك إلى التركيبة النّفسية للمرأة، التي تنشأ في بيئة يهيمن فيها الغيب أكثر من العلم، "إنها أكثر حرصًا من الرجل على طرد الأمراض من البيت، واستعدادها لأن تفعل أيّ شيء تؤمن بأنه يجلب الشفاء أكبر من استعداد الرجل". يضيف: "قلّة هنّ النساء الجزائريات، اللواتي يعترفن لأزواجهنّ باستعمالهنّ خلطة طبية شعبية، أو بتعاملهنّ مع مشعوذ".

اقرأ/ي أيضًا: 5 مشروبات ساخنة لا يمكن الاستغناء عنها في الشتاء

ساهم انتشار الفضائيات المتخصصة في الطب الشعبي والرقية في الجزائر في زرع ثقافة اللجوء إلى العشابين والرقاة والحجامين

يتطوّر الأمر في بعض الأسواق الشّعبية، فيعتمد العشّابون على مكبّرات الصّوت، في التّرويج لوصفاتهم، التي يطلقون عليها أوصافًا سحرية. هذا ما وقف عليه "الترا صوت" في السوق الأسبوعية لمدينة المهير، 160 كيلومترًا إلى الشرق من الجزائر العاصمة. حيث تموقع ثلاثة عشّابين في بقع متباعدة، ونصبوا طاولاتٍ أنيقة واضعين عليها علبًا تحوي أعشابًا وحبوبًا بعضها ذات أصول محلية، وأخرى ذات أصول خليجية وصينية وتركية وأوكرانية.

من أين جلب كل هذه الفصاحة؟ تساءل أحدهم. إذ كان العشّاب يراهن على لسانه وهندامه الدّينيين، في كسب التصديق، وعلى عباراته الفصيحة في جلب الانتباه. قال آخر ساخرًا: "آه لو كان أهلي وأصدقائي الراحلين بسبب الأمراض المستعصية أحياء! لكنت اشتريت لهم أدوية من هذا العشّاب". يقصد أن العشّاب كان يقول إنه يستطيع أن يداوي السكري والمعدة وبعض أصناف السرطان، مثل سرطان المثانة. سأل "الترا صوت" الشاب السّاخر عن سبب سخريته، فقال: "ما باله يقصد الأسواق الشعبية الفقيرة ما دام يستطيع أن يعالج كل هذه الأدوية؟ لماذا لا يبيع خبرته وعلاجاته لشركات الدّواء العالمية؟".

نقل "الترا صوت" هذا السؤال إلى العشّاب، الذي ظهر عليه الارتباك حين علم أنه في مواجهة الصحافة، فبادر إلى القول إن التصوير ممنوع. قلنا له: "يفترض أنك تثمّن ذلك، فهو داخل في باب التسويق لأدويتك، التي تقول إنها تعالج أمراضًا مزمنة، وستكسب مزيدًا من الزبائن! هل تقبل عرضنا لأن تتحدّث على أن ننشر الفيديو باسمك؟ فقال إنه لا يجد مانعًا من ذلك، لولا أن مهنته غير معتمدة من وزارة الصحة، "التي تشنّ علينا حربًا غير مبرّرة".

في كلام العشّاب إشارة إلى تصريح وزير الصحة، مطلع سنة 2017 الذي ذهب إلى أن وزارته سوف تقترح مشروع قانون يقضي بغلق المحلّات المتخصّصة في بيع العلاجات الشعبية، "حماية لصحة المواطن". ولن يبقى منها إلا ما كان مسيّرًا من طرف أطبّاء وصيادلة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أقفال السحر في الجزائر.. رعب وفكاهة

أضرحة الأولياء الصالحين.. ثقافة مترسخة في المغرب