لو كان الساروت نقيًّا كالماء في قعر المحيطات، لما أفادنا وأفاده ذلك في نظر خصومه من أعداء الحرية والمذعنين للاستبداد، وبشيء من التأمل والروية يمكن لأي عاقل التنبؤ بسلوك هؤلاء فيما لو لم يجدوا ما يمكن لهم أن يستندوا له في المحاججة والمخاصمة، فمثال الطفل الشهيد حمزة الخطيب ذي الثلاثة عشر عامًا لا يزال ماثلًا في ذاكرة كل سوري، ونتذكر مليًّا كيف أنكر رأس النظام السوري في مقابلة تلفزيونية سماعه بما حدث لحمزة من تنكيل وتعذيب، بل أنكر معرفته بالطفل أصلًا، ثم تضاربت الأقوال والروايات بعد أن عم الغضب الشارع السوري وندّد العالم بجريمة التمثيل بجثة الطفل البريء، فبات حمزة على لسان مؤيدي النظام السوري إرهابيًا مسلحًا يريد قتل جنود الجيش السوري، ثم تحوّل إلى طفل مغرر به ساقه المندسون مع أصحابه كأكباش فداء في معركتهم التخريبية، ولاحقًا استقروا على رواية مخزية مفادها أن الفتى الذي لم يبلغ بعد سن الرجولة، كان يقصد اغتصاب النسوة في مساكن الحرس، وأنه قتل نتيجة الاشتباكات.
يجب ألا ينسى الجميع بأن "داعش" التي نفى الساروت لاحقًا باعتراف مسجل ومصور انتسابه لها، كانت تتحرك على مرأى ومسمع النظام السوري نفسه
لكن وعلى الرغم من استقبال رئيس النظام السوري لوالد الطفل لاحقًا وتقديم التعزية له، لم يشفع ذلك للثورة ولا للثوار ولا لحمزة نفسه في نظر محبي النظام، وهذا أمر اعتدنا عليه كسوريين اختبروا بطش نظامهم منذ قرون، فالرواية الرسمية تصدر عادة للخارج وللرأي العام، نمطية الطابع، متماشية مع الرغبة الغربية خاصة، والدولية عمومًا، بحيث توحي للعالم أن النظام نظام عقلاني، علماني التوجه. أما على صعيد آخر فالرواية الشعبية شيء آخر، يجب أن تحمل في طياتها طابعًا عنيفًا وقاسيًا ومخيفًا لكل مواطن تسول له نفسه بالتعبير عن رفضه لأي مظهر من مظاهر الاستبداد.
اقرأ/ي أيضًا: حرب على صورة الساروت واسمه
يعتمد النظام في تسويق كلتا الروايتين على عامل الزمن، فهو يعي تمامًا بأن الزمن كفيل بنسف أية وجهة نظر تغطي حدثًا جللًا إذا لم تدعم تلك النظرة بتأييد شعبي وعالمي وببراهين ثابتة، له في ذلك تجربة قديمة في الثمانينيات من القرن المنصرم بعد مجازر حماة الشهيرة.
في السياق العام لحياة الساروت الذي تحول إلى سردية تصلح أن تكون سردية الثورة بحق، بكل تضاريسها، وجد النظام ضالته المنشودة في خلفية الساروت العقائدية، كي يطلق ذبابه الإلكتروني ووحوشه حملة عنيفة لتحطيم رمزية البطل الشعبي الذي استطاع بخفة الروح الاستقرار في رحم الضمير الشعبي.
يجب ألا ينسى الجميع بأن "داعش" التي نفى الساروت لاحقًا باعتراف مسجل ومصور انتسابه لها، كانت تتحرك على مرأى ومسمع النظام السوري نفسه وبتسهيلات منه، متقافزة بين المحافظات السورية بسهولة، وبأن الطيران الحربي السوري والروسي الذي دكّ مدنًا سورية كاملة لم يحدث وأن ضرب ولا لمرة واحدة رتلًا واحدًا من أرتال التويوتا التي كانت تسرح وتمرح على الأوتوسترادات السورية في الداخل. لكن النظام يدرك بأن اتهمامه بالتواطؤ مع داعش سيخضع للتجاذبات ولعبة التجاذبات هي المستنقع الذي يعرف التحرك به تمامًا، ألم يقل في يوم ما وزير الخارجية وليد المعلم في تصريح له عن آلية النظام في التعاطي مع المحققين الدوليين بالمجازر التي ارتكبها نظامه: سنغرقهم بالتفاصيل!
وهذه الآلية أثبتت جدواها خلال السنوات الماضية، فهي تتيح لهم اكتساب الوقت الكافي لتشتيت صفوف الثورة، ولتبديد أي إجماع قد يحدث شعبيًا حول أية مستجدات، ولاحقًا لإخفاء مكامن الضعف.
تحضرني الآن حادثة جرت معي حين كنت طالبًا في كلية الإخراج السينمائية في جمهورية موالدافيا الشعبية التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق، بعد أحداث أيلول/سبتمبر بشهور، وما ترتب عليها من تداعيات خطيرة، أسفرت فيما أسفرت عن تعامل قاس مع الجاليات المسلمة في بعض الدول الأوروبية، فبينما كنت واقفًا بانتظار دوري أمام مكتب لتصريف النقود، اخترق الطابور مواطن يتحدث الروسية، ودفع بجلافة مقصودة شابًا أسمر تبدو عليه ملامح عربية واضحة قائلًا: ارجع لورا يا بن لادن!
انتابتني الحمية فتقدمت ثم قلت له: وأنا أيضًا بن لادن.
هل أجدني يومًا ما مضطرًا لتبرير كلمتي تلك فيما لو كانت محفوظة ومتداولة وأتاحت لي الظروف في سياق ما أن أبرز شعبيًّا؟
البطولة في جوهرها ليست متاحة للجميع! الأبطال فقط من يصنعون البطولة
ما أريد قوله إن التعسف هو المحرك الأول للعنف، وأن التطرف هو المحرك الثاني، وأمام تعسف وتطرف كالذي شهده شخص فقد كل إخوته وكثيرًا من أهله ثم غنى للحرية ورددنا أغانيه، ينبغي لنا التأمل طويلًا، وعدم الغرق في التفاصيل، علها تكون ولادة جديدة من رحم هذا الضمير الشعبي الذي بثت به الحياة برحيل الساروت.
اقرأ/ي أيضًا: الساروت.. موت ثائر
هنالك من يكتب عن الأبطال جيدًا، وهنالك من يصنع أفلاًما عن الأبطال وهنالك من يتقمص شخصياتهم ليمثل أدوارًا ناجحة، ولكن البطولة في جوهرها ليست متاحة للجميع!
الأبطال فقط من يصنعون البطولة.
اقرأ/ي أيضًا: