الحديث عن تقاطع تأسيس الدولة السعودية مع المشروع البريطاني، أو عن الانخراط الوظيفي السعودي في المشروع الأمريكي لاحقًا، أو عن مسؤوليتها في نشر التطرّف؛ هو حديث مهمّ، ودائما ما يتمّ طرحه من زاوية الشرح التاريخي لدور المملكة وتفسير سياساتها على مرّ عقود. بيد أن ذلك لا يجب أن يخفي اليوم مدى جسامة التغييرات التاريخية في سياسات المملكة مقارنة بما سبق.
ممّا لا شكّ فيه بأن الحاصل هو سليل مسار متكامل، ولكن المواقف الأخيرة للسعودية هي تأسيس فارق في تاريخها. فاليوم هو امتداد للأمس، ولكن اليوم تَضِيع منّا السعودية أكثر من أي وقت مضى.
الدعم المالي السعودي للسلطة الفلسطينية، بات رهين التزام الأخيرة بالخط السياسي الذي تريده لها السعودية
منذ نشأة السعودية بشكلها الحديث، تبنت المحافظة كسمة رئيسية لها فيما يخصّ السياسات المجتمعية وكذلك سياستها الخارجية، رغم مواجهاتها في المحيط العربي. دخلت في الستينيات في مواجهة مع عبد الناصر في باحتها الخلفية في اليمن ضمن الصراع التقليدي وقتها بين الممالك العربية والموجة الجمهورية الصاعدة ببزّة عسكرية وبيافطة قومية، هو صراع بين الرجعية والتقدمية بوصف القوميين، وصراع بين التيار الاشتراكي التغريبي والدعوة الحقّ بوصف السعوديين وحلفائهم. وهو صراع لم يؤثر على وحدة الموقف العربي من القضية الفلسطينية، ويظل قرار الملك فيصل بحظر تصدير النفط إبان حرب تشرين الثاني/أكتوبر 1973 هو المثال الحيّ عن ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: سعوديون مع التطبيع.. أصوات شاذة في ركب الأمير الجديد
لم تحاول السعودية قيادة جيوش جرّارة لتحرير فلسطين، ولكنها لم تتردّد في اعتبار القضية الفلسطينية ذات أولوية، فقد أغدقت السعودية أموالًا سخيّة على الفلسطينيين، وقدمت دعمًا ماليًا شهريًا حين الانتفاضة الأولى سنة 1987، وتبرّعت بمبالغ هامّة في الانتفاضة الثانية سنة 2000. ولم تشمل الأموال والتبرعات فقط الجانب الإنساني، بل شملت الجانب السياسي أيضًا، إذ قدمت دعما لحركة حماس، وسمحت لمواطنيها بجمع التبرعات لصالحها، قبل أن ينقلب الحال.
وقد انحصر الدعم المالي السعودية منذ سنوات لصالح السلطة الفلسطينية التي باتت رهينة لمموّليها، إذ لم يكن الدعم العربي والدول الكبرى لها إلا بهدف إبقاء هذا الجسد الفلسطيني الهزيل حيًّا من أجل عملية سلام متوهّمة.
والدّعم المالي السعودي بدوره رهين التزام السلطة بخط سياسي، يبدو أن السلطة زاغت عنه حينما أوقفت المملكة دعمها المالي لها السنة الماضية، وذلك في خضم حديث محمود عباس صراحة حول سعي عواصم عربية لمصادرة الموقف الفلسطيني، والحديث عن ضغط القاهرة والرياض وأبوظبي من أجل دفعه لتقديم تنازلات لحساب تيار دحلان المدعوم بقوّة من الإماراتيين.
السلطة الفلسطينية في نظر السعوديين الآن، هي جهاز يجب أن يخضع لخطهم السياسي، فإن زاغ عنهم أوقفوا صنبور المال، أما حماس فهي ببساطة باتت "حركة إرهابية" بالنسبة إليهم، وبات أي مواطن سعودي يمدح الحركة أو أحدًا من قيادتها على مواقع التواصل الاجتماعي، محلّ اتهام بدعم الإرهاب.
لم يعد محرجًا بالنسبة للسعودية الحديث عن فتح قنوات اتصال مع إسرائيل، ليكون غير مفاجئًا في المستقبل القريب الإعلان عن تطبيع كامل
وفي الأثناء، لم يعد مُحرجًا الحديث عن فتح قنوات اتصال مع الإسرائيليين، ليكون من غير المفاجئ مستقبلًا أن تعلن السعودية تطبيعًا كاملًا للعلاقات على غرار مصر والأردن. فعلى الأرجح أن السعودي الذي يرفع اليوم علم فلسطين في شوارع الرياض، هو بنظر الأجهزة الأمنية مشتبه به بمعارضة توجهات المملكة!
اقرأ/ي أيضًا: السعودية تستأنف رحلة تطبيعها الكامل مع إسرائيل.. تل أبيب محبوبة "العرب"!
في ملف آخر، يعتبر السعوديون بأن الله أكرمهم باستقبال ضيوف الرحمن على أرضهم في العمرة والحجّ كل عام، ومّما هو معلوم عندنا، أنه لم يستغلّ ملوك السعودية الحرمين لمساومة سياسية لن يكون ضحيتها إلا الأبرياء الذين يمنون النفس طيلة حياتهم بأداء العمرة أو الحج. ففي سنة 1986، اتخذ الملك الراحل فهد لنفسه اسم "خادم الحرمين الشريفين" بدل "جلالة الملك"، ولا يتردّد السعوديون، ملوكًا وأمراء ومواطنين، بالافتخار بنعمة خدمة ضيوف الرحمن. ولكن يبدو أن الخدمة الربانية باتت تدنّسها سياسة الابتزاز والعقاب.
فحينما أعلنت السعودية مع حلفائها الحصار ضد قطر، لم يكن أول الضحايا إلا المواطنين القطريين، ولذلك سارع الملك سلمان لحفظ ماء وجهه باستثناء مراعاة الحالات الإنسانية من إجراءات الحصار، كما أكدت الجهات الرسمية بأنه لن تتأثر مناسك أداء القطريين للعمرة، ولكن الواقع يخالف المُعلن، ليكون موسم الحجّ القادم عسيرًا على القطريين، إذ أعلنت حملات الحج القطرية عدم تسييرها لرحلات خلال الموسم الجاري، وذلك بسبب "المضايقات والاستفزازات التي حصلت خلال أيام العمرة". ويصعب اعتبار الاستفزاز عملًا فرديًا، بقدر ما هو في الحقيقة توجيه من الدولة كورقة ابتزاز ضد قطر.
لا يقتصر الأمر عند ذلك، إذ كشفت صحيفة لوموند الفرنسية أن السعودية ساومت دولًا إفريقية بملف الحجّ لإجبارها على الانضمام لمعسكر دول الحصار. في النهاية، لم يعد الملك خادمًا للحرمين للشريفين، بل بات خادمًا فقط لأجنداته الدنيوية الضيقة، ومساومًا ومبتزّا في حقّ ملايين المسلمين في أداء الفريضة الربانية. وعليه فحينما يصبح ملفّ الحج ملف مساومة، فالسعودية تضيع منّا.
تتحوّل السعودية بسرعة قياسية من صديق غير حميم أو خصم مستتر للشعب العربي، إلى عدوّ مباشر له ولاستحقاقاته
حافظت السعودية طيلة عقود على مكانة معتبرة في الشارع العربي رغم عديد الانتقادات لها، أما اليوم فقد سقطت هذه المكانة وحلّ محلّها شعور بالكره بل العداء. فالمصريون يعتبرون أن السعودية تتحمل مسؤولية رئيسية في انقلاب الثالث من تموز/ يوليو والبؤس الذي تلاه، وزادت صفقة تيران وصنافير في شعور الكره لمملكة اغتصبت أرضًا مصرية من حاكم غير شرعي. ولا تختلف الصورة عند الليبيين أو السوريين أو التونسيين تجاه مملكة تآمرت على ثوراتهم. وفي اليمن، فالحملة العسكرية الممتدة منذ سنتين جعلت السعودية كعدوّ، هو المسؤول المباشر عن قتل ألاف الأبرياء.
اقرأ/ي أيضًا: تيران وصنافير في الصحف الإسرائيلية: "السعودية ملتزمة بمصالح تل أبيب"
في السنوات الأخيرة، تعالت دعوات مقاطعة الحجّ بسبب السياسات السعودية وبسبب توجيه مواردها المالية في قتل أحلام الشعوب العربية، وباتت تجد هذه الدعوات انتشارًا سنة تلو الأخرى، وهو ما يعكس مدى تنامي شعور العداء للمملكة في الشارع العربي.
اختصارًا، تتحوّل السعودية بسرعة قياسية من صديق غير حميم أو خصم مستتر للشعب العربي، إلى عدوّ مباشر له ولاستحقاقاته، والتي على رأسها قضيتنا الفلسطينية وهمّنا للتحرّر من الأنظمة الاستبدادية.
اقرأ/ي أيضًا:
السعودية والإرهاب.. جرائم بشهود وجلاجل
السعودية عرابة الإرهاب.. تقرير "هنري جاكسون" يُذكّر بما يعرفه الجميع