"أعطني الحليب ومتعطنيش سنطرال"، ينادي شيخ طاعن في السن، صاحبَ البقالة، يخبره بأن يمده بعلبة حليب لكن ليس من نوع "سنطرال". يهرع التاجر إلى الثلاجة، التي يظهر من بابها الشفاف علب "سنطرال" المصففة في الرف السفلي وكأنها غير ممسوسة، ثم يحمل علبة حليب في الرف العلوي ويقدمها إلى الرجل العجوز: "هاك الحاج هادي راها جودة".
قبل أيّام انتشرت بشكل فائق السرعة على فيسبوك، حملة مقاطعة لثلاث مواد استهلاكية في المغرب، بسبب غلاء أسعارها
اقتربت من الشيخ المسن، وسألته مبتسمًا: "ما العيب في سنطرال يا حاج؟"، أخبرني أن ابنه الذي يعمل في إحدى الشركات بعيدًا عن المدينة، اتصل به خصيصًا بالأمس، ليعلمه لكي "لا يشتري حليب سنطرال وماء سيدي علي، لأن المغاربة جميعهم يقاطعونها". ويحدثني صاحب البقالة أنه منذ يومين، لا أحد يشتري منه "سنطرال" أو "سيدي علي"، مشيرًا بيده إلى الكميات المكدسة من هاتين البضاعتين بالثلاجة الموضوعة إلى جانب باب البقالة، دون أن يبدو على وجهه ملامح التذمر من ذلك!
اقرأ/ي أيضًا: من المسؤول؟.. أسعار الأدوية بالمغرب تضاعف ثمنها الدولي
حملة مقاطعة واسعة تجتاح فيسبوك المغاربة
قبل أيام أطلق نشطاء مغاربة على موقع التواصل، فيسبوك، حملة إلكترونية واسعة لمقاطعة ثلاثة سلع هي: حليب "سنطرال" المعلب، وبنزين "إفريقيا"، وماء "سيدي علي" المعدني، احتجاجًا على أسعارها "غير المعقولة". وسرعان ما انتشرت رياح الحملة كالنار في الهشيم على الشبكات الاجتماعية، تحت وسوم مختلفة، مثل "#مقاطعون" و"#خليه_يريب" و"#قاطع"، ليلتحق عشرات الآلاف بموجة المقاطعة، بهدف وضع حد لجشع أباطر المواد الاستهلاكية.
في محاولة لفهم سر تبلور هذه الحملة الشعبية بهذا الشكل السريع والكثيف فقط من خلال موقع فيسبوك،، والتي فاجأت الكثير من النخب وأصحاب الشركات الغذائية، أجرى "ألترا صوت" اتصالًا بالأخصائي في علم النفس الاجتماعي، مصطفى الشكدالي، ليجيب من خلال تدوينة كان يُعد نشرها مسبقًا على صفحته، يقول فيها إن "حملة المقاطعة للمواد التي تحتكر السوق المغربي، لهي مؤشر قوي على الوعي الاجتماعي بالتكنولوجيا الرقمية كوسيلة فعالة للتأثير في الواقع والتحكم في التحكم"، مضيفًا "إنها نوع من العصيان المدني الذي يصعب التحكم فيه، بعد أن أصبحت التكنولوجيا الرقمية قوة ضاربة في التأطير أكثر من أي تنظيم سياسي كيف ما كانت قوته المادية والمعنوية".
ويظهر حتى الآن على الأقل أن المقاطعة ناجحة وتزيد دائرة الملتحقين بها اتساعًا، مثلما كبدت الشركات المعنية خسائر فادحة جعلتها في وضع مرتبك لترد بمقاطع فيديو دعائية، في حين بدأت تتحسس شركات أخرى أرباحها بعدما بدا لها أن طوفان المقاطعة قد يتوجه إلى مواد استهلاكية أخرى، هذا ما دفع شركة "جودة" إلى استباق الأمر وتخفيض ثمن حليبها المعلب من 3,50 درهم إلى ثلاثة دراهم للعلبة الواحدة.
ولكن ليس الكل يتفق مع حملة المقاطعة، فهناك فئة أخرى ترى أن هذه المبادرة مدفوعة بحسابات سياسية، رغم طابعها الشعبي، حيث يقول الكاتب إدريس الكنبوري في تدوينة له، إن "حزب العدالة والتنمية الإسلامي يسعى إلى توظيف نقمة الناس على ارتفاع الأسعار ضد خصومه السياسيين، بينما زيادة الأسعار وقعت في ظل حكومته بعد رفع الدعم ولا زالت تتقلد مفاتيح الحكومة إن أرادت الإصلاح".
وهو ما يجعل هذه الفئة تستغرب سر استهداف المقاطعة شركات بعينها دون غيرها، مثل شركة "إفريقيا"، المملوكة لوزير الفلاحة والصيد البحري الحالي، عزيز أخنوش، الخصم العنيد لرئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران، مع شركة "سيدي علي" للماء المعدني التابعة لمريم بنصالح، رئيسة اتحاد مقاولات المغرب "الباطرونا"، والتي لا يبدو أنها على وفاق تام مع حزب العدالة والتنمية.
في المقابل، يُؤكد أنصار المقاطعة على الطابع الشعبي والاجتماعي لحملتهم، ويردون بأنه "لا يهم إن التحقت جهات سياسية بالحملة، طالما أن الهدف هو مكافحة الجشعين المحتكرين للسوق"، مؤكدين في نفس الوقت أن مبادرتهم ستطال شركات أخرى فيما بعد.
سبب الغلاء في المغرب
وبالعودة لصلب الموضوع الذي من أجله دُشنت هذه الحملة الشعبية الرقمية، وخُلق كل هذا الجدل، وهو الغلاء. فقد بات الغلاء جائحة تثقب جيوب المواطنين في كل مرة يخرجون فيها للتبضع.
ثمة سببان في رفع أسعار السلع بالمغرب، الأول: احتكار الشركات وكسر مواثيق المنافسة، والثاني: غياب دور الحكومة الرقابي وحماية المستهلك
وفي سياق حراك حملة المقاطعة على الشبكات الاجتماعية، يبث الناشطون مقاطع فيديو وهم يتسوقون داخل محلات تجارية بالمدن الأوروبية والأمريكية، حيث يعقدون مقارنات مع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بالمغرب، تظهر البون الواسع وفداحة الغلاء الذي يكتوي به المستهلكين المغاربة، حتى مقارنة مع الدول الثرية، التي يضاعف دخل مواطنها الفردي مرات بالنسبة لنظيره المغربي. ويعني هذا بالنسبة إليهم أنه ثمة أمر بالغ السوء يحدث في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: جامعي في المغرب.. إذًا أنت عاطل عن العمل!
خلال منتصف العام الماضي، نشرنا في "ألترا صوت" تقريرًا عن كيف حولت شركات المياه المعدنية في المغرب، ثروة حيوية طبيعية مثل الماء، إلى منجم ذهب تُراكم من خلاله الأموال الطائلة، بحيث تبيع قنينات الماء المعدنية بأسعار تفوق ما يباع في أوروبا، مع البون الشاسع الذي يمنع المقارنة، وفي نفس الفترة أيضًا نشرنا مادة استنادًا إلى تقرير سابق للجنة المالية والاقتصادية بمجلس النواب، الغرفة الأولى في برلمان المغرب، يَخلُص إلى أن أسعار الأدوية في المغرب "مرتفعة بشكل غير عادي عن الثمن الدولي، بحيث تفوق مثيلاتها في تونس مثلًا، وهو بلد مغاربي ذو إمكانات اقتصادية واجتماعية محدودة، بـ%30 إلى %189".
فما الذي إذن يجعل بلدًا من العالم الثالث، يشهد غلاء مستعرًا في معظم المواد الاستهلاكية، من المواد الغذائية إلى المحروقات والأدوية، بشكل يفوق حتى الدول الأكثر ثراءً؟!
توجهنا بهذا السؤال إلى البروفيسورة مارثا شين من جامعة هارفرد الأمريكية، وهي متخصصة في اقتصاديات العالم النامي، لتجيب قائلة: "هناك العديد من الأسباب التي قد تفسر ارتفاع الأسعار في بلد ما، يُعتمد هذا على السياق أو السلعة نفسها، يمكن للحكومة أو الشركات أن تحدد الأسعار التي ترغب فيها، وعادة في الواقع، تتحدد حسب طلب السوق، أو قد تنجم عن أسعار صرف غير مواتية للسلع المستوردة ".
إلا أن الأستاذة الجامعية لم تحدد لنا بالضبط العامل المسؤول عن ارتفاع الأسعار بالمغرب، مفسرة حاجتها إلى فهم سياق البلد الاقتصادي والسياسي. لذلك كان لزامًا البحث في مكان آخر عن الجواب، ولحسن الحظ تتبعنا حالة مناسبة يمكن أن توضح لنا الصورة أكثر، وهي متعلقة بتحرير قطاع المحروقات.
في عام 2012 قررت حكومة عبد الإله بنكيران تنفيذ ما أسمته بخطة "إصلاح صندوق المقاصة" تحت ذريعة استنزافه لميزانية الدولة، كحلقة من حلقات تحرير السوق بعيدًا عن تدخل الدولة التي دشنها المغرب منذ سنوات، وبالفعل بدأت الحكومة تدريجيًا رفع الدعم عن الغازوال والبنزين والفيول، إلى أن رفعت يدها بشكل كامل عن قطاع المحروقات منذ فاتح كانون الثاني/يناير 2015، لتترك أسعار المواد الطاقية في السوق تابعة لمتغيرات سوق النفط الدولي، كما هو مفترض من هذه السياسة الاقتصادية.
لكن الأمر لم يجر على هذا النحو، ففي الوقت الذي تعرف فيه أسعار النفط العالمية هبوطًا ملحوظًا، وصلت في بعض الفترات السابقة إلى 43.32 دولارًا للبرميل الواحد، بقيت أثمان مواد الطاقة في المغرب على حالها مرتفعة ولم تنخفض، ما يعني بشكل بديهي أن الأسعار بالسوق الداخلي لا تخضع لتطور السوق الدولي وتغيراته، رغم أن القطاع يخضع إلى السوق الحر كما هو مفترض؛ وإنما تخضع لنزوات الشركات الخاصة المنضوية تحت هيكل "جمعية النفطيين بالمغرب".
هذا ما قاد والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، إلى اتهم شركات المحروقات صراحة بجمع الأرباح على حساب المواطن، قائلًا: "ليس هناك أي استفادة للمواطن المغربي من الانهيار الكبير لأسعار النفط عالميًّا، ولا يستفيد منها سوى شركات توزيع المحروقات"، مضيفًا أنه: "ليس من المعقول أن يشتري المواطن المحروقات بنفس السعر الذي كان وقت وصول سعر البرميل لأكثر من 140 دولار".
أيضًا كان للحكومة مساهمة في هذه الورطة، لأنها حررت قطاع الطاقة بدون ضمانات، وهو ما أشار إليه الخبير الاقتصادي، نجيب أقصبي، في تصريح له لموقع "لكم": "تحرير قطاع حيوي من الناحية الاقتصادية بدون أن تكون هناك هيأة مراقبة وضبط، هو حماقة من حماقات الحكومة"، داعيًا إلى تفعيل دور مجلس المنافسة الغائب، الذراع العمومي المكلف بمحاربة الاحتكار.
نستخلص إذن من هذه الحالة، أن هناك سببان ساهم كلاهما في رفع أسعار المواد الطاقية، الأول وهو يرتبط باحتكار شركات خاصة للأسواق وكسرها ميثاق المنافسة، أما الثاني فيتجلى في غياب تام لدور الحكومة في حماية المستهلكين المواطنين من تغول لوبيات القطاع الخاص، المتحمسة لجني الأرباح الطائلة على حساب حقوق الناس، وهذه النتيجة يمكنها أن تفسر غلاء الأسعار في كافة المواد الاستهلاكية والخدماتية بالمغرب.
التنافسية تخدم المواطن والاحتكار يدمر الاقتصاد
لنفهم كيف يعمل الاحتكار على رفع أسعار المواد الاستهلاكية والخدماتية وعلى تفقير جودتها، علينا إلى نقيض الاحتكار، وهو التنافسية.
في الواقع يعود سر قوة الأسواق الحرة إلى خاصية "التنافسية"، حيث تتسابق الشركات فيما بينها في تقديم الخدمات والمنتجات، ما يخلق تنافسًا في السعر والجودة. وبما أن المواطنين المستهلكين يفضلون عادة الخدمات والمنتجات الأرخص والأكثر جودة، ويبتعدون عن المنتجات الرديئة، فإنهم يقبلون على الشركات التي توفر منتجات جيدة ورخيصة، وبذلك يدفعون السوق باستمرار نحو إنتاج أفضل الخدمات وبأقل الأسعار الممكنة.
وفي نفس الوقت يفتح السوق التنافسي الحر الباب مشرعًا لدخول مختلف المقاولات الراغبة في الاستثمار، موفرًا المزيد من الخدمات وفرص الشغل؛ مما يقود في الأخير إلى وفرة اقتصادية في المجتمع كمًّا ونوعًا، بيد أن المغرب هو سوق حر نسبيًا مثلمًا يُنظر إليه، فلماذا لم تصل البلاد إلى هذه الوفرة الاقتصادية المميزة، أو المُفترضة للأسواق الحرة؟
وفق ورقة بحثية منشورة، لمعهد ساري لبحوث الاقتصاد العالمي، توضح الأسباب وراء فشل الأسواق الحرة في البلدان الأفريقية، تكمن المشكلة في تداخل السياسة مع الاقتصاد، فتتحول الأسواق الحرة في هذه البلدان إلى أسواق مصطنعة وغير تنافسية، مفصلة على مقاس النخب المتوغلة في السلطة أو المقربة منها، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى احتكار الأسواق من طرف النخب، في ظل ضعف الحكومات المنتخبة على مراقبة شفافية السوق والحفاظ على تنافسيته، وبالتالي يسقط المستهلكون في قبضة شركات معدودة لها مطلق الأريحية في تحديد السعر ونوعية الخدمة، طالما تسيطر على السوق.
خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، عانت الولايات المتحدة الأمريكية من احتكار الأسواق من قبل مافيا "كوزا نوسترا" في نيويورك، جنبًا إلى جنب مع قلة من الشركات الضخمة التي كانت تسيطر على قطاعات برمتها في أنحاء البلاد، على الرغم من أن الكونغرس الأمريكي أقر قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار منذ عام 1890 لكسر الثقة وحماية الأسواق التنافسية، وهو ما دفع الكونغرس فيما بعد إلى سن قوانين أكثر صرامة لحماية المستهلك.
ومع أنه لا تزال إلى اليوم شركات معدودة في الولايات المتحدة تستحوذ على بعض القطاعات، إلا أنها تبقى ملزمة، بقوة القانون، بالحفاظ على الأسعار منخفضة، وملاءمة منتجاتها مع المعايير الدقيقة للجودة، فضلًا عن أنها تمارس أنشطتها تحت مراقبة أجهزة التحقيق والمحاكم الفيدرالية، التي لا تتردد في تغريمها ملايين الدولارات عندما تخالف حقوق المستهلكين أو العمال. ويوم الخميس الماضي، سددت شركة "Wells Fargo" البنكية، غرامة مالية قدرها مليار دولار، بسبب انتهاكها لقانون حقوق المستهلك المالي.
لا يقتصر ضرر الاحتكار على المواطن المستهلك فقط، بل يتعداه إلى العمال أنفسهم في الشركات المحتكرة والاقتصاد الوطني برمته، يشرح هذا الأمر بروفيسور الاقتصاد سوريش نيدو من جامعة كولومبيا، في تقرير بحثي له نشر على موقع "Vox"، حيث يقول، مستندًا إلى البيانات، إن "الأسواق التي يسودها الاحتكار تعمل على تقليل أجور العمال واستنزاف جهد أكبر منهم".
وأوضح سوريش نيدو، أنه في الأسواق التنافسية "يتنافس أصحاب الأعمال على العمال، من خلال تقديم أفضل العروض والإجازات والتعويضات سخاء"، لكن في حالة الاحتكار تصبح اليد الطولى لأرباب الأعمال على العمال والمستهلكين سواء.
وبما أن الأسواق الاحتكارية، حسب البروفيسور، تقلل من العمالة والأجور، فإن ذلك يقود مباشرة إلى سلسلة متوالية من الكوارث، تبدأ بانخفاض إيرادات الحكومة من الضرائب، ثم انخفاض معدلات النمو، وارتفاع عدم المساواة ، وزيادة البطالة، و ليس أخيرا تعميق العجز المالي الحكومي بشكل مستمر ومتزايد، وهو بالضبط ما يعرفه المشهد الاقتصادي المغربي حاليًا.
إن الأسواق التي يسودها الاحتكار، تعمل على تقليل أجور العمال واستنزاف جهد أكبر منهم، عما هو الحال في الأسواق التنافسية
لتأتي حملة المقاطعة الواسعة كصرخة مدوية في وجه اللوبيات الجشعة، عاكسة في نفس الوقت الهوة الواسعة التي تفصل بين النخب السياسية المتهالكة والنقابات المتخاذلة من جهة، والطبقات الشعبية من جهة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: