تبدو استعادة الشّاعر اللبنانيّ خليل حاوي (1911-1982)، دون المجيء على ذكر مشهد وفاته، استعادة يشوبها النقص، بل إنّ أغلب ما يُكتب في استعادته يأتي من باب التذكير المستمر بالكيفية التي قضى فيها في السادس من حزيران/ يونيو 1982، أي حين أخذ بندقية الصيد الخاصّة به، ووضعها على صدغه مُطلقًا النار احتجاجًا على دخول الجيش الصهيونيّ إلى مدينة بيروت بعد اجتياحه لبنان.
يرى خليل حاوي أن الشِّعر يمدّ الحياة بالرؤيا التي تضيء خفاياها، ويستمدّ منها العناصر الحيّة لبناء عالمه
بدا انتحار خليل حاوي الذي تزامن مع سقوط العاصمة اللبنانية، حصيلة أو نتيجة للخيبات المتراكمة عليه إلى الحدّ الذي باتت عنده تفوق قدرته على ترويضها أو التعامل معها بطريقةٍ ما تُخفّف من وطأتها عليه، عدا عن أنّها حاصرته آنذاك بسيل من الأسئلة: إلى أين يمدّ الجسر؟ كيف سيفعل ذلك؟ من يعيد لململة أجزاء الخرائط الممزقة والمتناثرة على طول الحدود؟ من يغسل كلّ هذا العار؟ من يرفع كلّ هذا الذلّ؟
اقرأ/ي أيضًا: بين انتحارين... خليل حاوي أرادها في الرأس
إنّ استعادة مشهد انتحار الشّاعر اللبنانيّ ترتبط بالعودة إلى مُنجزاته الشّعرية والتشديد على غموضها تمهيدًا لربطها بطريقةٍ أو بأخرى بحادثة الانتحار، الأمر الذي يجعل من استعادته مقتصرة على الانتحار والشِّعر فقط، في الوقت الذي يبدو فيه أفق حاوي أكثر اتّساعًا وامتدادًا، إذ كانت له بعض الأفكار الفلسفية والآراء النقدية في الحداثة والتراث والشِّعر الجاهليّ والحديث وقصيدة النثر وغيرها من المجالات التي خاض غمارها ناقدًا وباحثًا.
وحتّى لا تبدو استعادته هنا ضيّقة، تُراوح في مكانٍ واحد، ولا تتخطّاه أيضًا؛ لا بدّ من استحضاره بصفته هذه المرّة ناقدًا للشعر بمشاريع لم يُكتب لها أن تكتمل، ومفكِّرًا بأفكارٍ ظلّت حبيسة رأسه، باستثناء ما تسلّل منها إلى صحف وجرائد ذلك الزمن.
أوّل ما ينتبه إليه خليل حاوي في الشِّعر الجاهلي هو معاناة الإنسان في تلك الحقبة مع الزمن، الأمر الذي يجعل من الوقوف على الأطلال، باعتباره موضوعًا له وزنه في متن هذا الشِّعر، بحاجة إلى أن يُقرأ انطلاقًا من أنّه، في جوهره، معاناة الزمن.
والشِّعر الجاهليّ كما هو تحت مجهر الشاعر اللبنانيّ الراحل، ينطوي على صورة محدّدة توحي بأصداء غير محدودة تجعل منها، هذه الصور، قادرة على بلوغ حدّ الرمز الذي تسقط عنده المقولات التي تفيد بأنّ صورًا كهذه هي في حقيقة الأمر تنسخ الواقع الظاهر فقط. ويأخذ حاوي هنا من معلّقة امرؤ القيس مثالًا على هذه الصورة المقصودة باعتبار أنّ المعلّقة تُحيل إلى حالة نفسية داخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا وتلقائيًا بتلك الصور الحسّية المستمدّة من فضاء الطبيعة. أي أنّ الشّاعر، في هذه الحالة، وفي استخدامه المجاز على هذه الصورة، قد جاء وفقًا لحاوي بما يُدعى في النقد الحديث بـ "المعادل الموضوعي لحالته النفسية".
فالشاعر كان قد تحاشى، اتّساقًا مع طبيعته، التعبير عن المشاعر تعبيرًا مباشرًا، واكتفى بتحويلها إلى صور يُمكن القول إنّها صيغت صياغات لغوية وإيقاعية موحية. هكذا، لا تكون المعاناة الشعورية وحدها مصدر الشِّعر فقط، بل ويصاحبها وتتقدّمها من حيث القيمة، قدرة الشّاعر على تجسيد مشاعره بالصورة والإيقاع، الأمر الذي يراه خليل حاوي سمة في الشِّعر الجاهليّ، تدفعه أو تجعله يتّجه باتّجاه كلّ شعر أصيل. والخلاصة أنّ عملية البحث في التراث العربيّ لا تصحّ قبل نشره نشرًا كاملًا، وما ينطبق هنا على الشِّعر، ينطبق أيضًا على الفكر الفلسفيّ وغيره من المجالات الفكرية الأخرى.
يُمكن التعامل مع المذكور أعلاه كجزء من مُحاولة حاوي لصياغة تعريف للشِّعر الأصيل الذي يكون عنده الشِّعر المُنطلق من المحسوس والجزئيّ، ويبقى ضمن حدودهما، تعبيرًا عن واقع يراهُ سطحيًا وتافهًا ولا قيمة له أيضًا بالنسبة إلى المعيار الذي اعتمده في محاولة صياغة هذا التعريف، وهو معيار بعيد عن نعت الشِّعر العربيّ بالواقعية الصريحة التي جاءت نتيجة قراءة مبنية على نظرة يراها مشوّهة وقاصرة في طبيعة هذا الشِّعر الذي يعبث بالواقع، بالإضافة إلى مجيئه، وفقًا لمؤلّف "نهر الرماد"، بصورة تتخطّاه، مُتّخذًا من بيت امرؤ القيس هذا مثالًا: "مِكرّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معًا/ كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ منْ علِ".
نظر خليل حاوي إلى الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي، باعتباره موضوعًا له وزنه في متن هذا الشِّعر، وبحاجة أن يُقرأ انطلاقًا من أنّه، في جوهره، مقاساة الزمن
إنّ الحديث عن الشِّعر الجاهلي لا بدّ أن يقود إلى حديثٍ آخر عن الشِّعر الحديث الذي يرى حاوي في لقاء أعماق الشّاعر بأعماق الحياة، وتفاعلهما بالشكل الذي يخصّب كلّ واحد منهما الآخر، بحيث يمدّ الشِّعر الحياة بالرؤيا التي تضيء خفاياها، ويستمدّ منها العناصر الحيّة لبناء عالمه؛ سمته الأبرز، أي الشِّعر الذي صدر عن الفئة المخلصة من روّاد الشِّعر الحديث، تلك التي استطاعت أن تنفذ بالرؤيا العميقة والشاملة وعبر الواقع اليوميّ وواقع العصر إلى الحقائق الإنسانية والكونية الثابتة، فكان أفرادها معاصرين قوميّين، وإنسانيّن كونيّين في آن واحد.
اقرأ/ي أيضًا: قائمة غير مكتملة للشعراء العرب المنتحرين
يُشدِّد خليل حاوي هنا على أنّ أهمّ ما اتّصفت به أشعارهم أنّها لا تلتصق باللغة والحضارة العربية التصاقًا خارجيًا، بل تنبع من قلبهما وتنمو في تربتهما، وتتّخذ أيضًا صفة التفجّر التلقائي، فتكون لغة جديدة في صميم اللغة العربية، وحضارة جديدة هي تعبير أصيل عن النفسية العربية، ونفاذ إلى الجذور العميقة المتشابكة لقضاياها المصيريّة من حضارة واجتماع وسياسة ودين.
في حديث صاحب "الناي والريح" إشارة إلى بعث الشعر الحديث لبعض العناصر التراثية، والانطلاق منها في مجال التجديد الأصيل الذي لا بدّ أن يعود، في سياق تكوينه، إلى الينابيع التي صدرت عنها كلّ نهضة شعرية في الماضي وفقًا لما يذكره حاوي الذي يرى أنّ هذه العودة تفترق وتختلف عمّا يدعى بالسلفية الشعرية التي تقنع بإحياء الأنماط والنماذج القديمة ولا تتخطّاها إلى الينابيع التي تفجّرت منها روح حيوية تولد أنماطًا ونماذج مختلفة. وبالإضافة إلى العودة إلى هذه الينابيع، واستلهامه، أي الشِّعر الحديث، لروح الفطرة في الشِّعر الجاهلي، هناك مصدر آخر غفل عنه الشِّعراء غفلة تامّة، فظّل مجهولًا وقابعًا في الهامش.
يُحدِّد حاوي هذا المصدر بالأساطير التي يحملها التراث الشعبيّ، تلك التي تعبّر تعبيرًا تلقائيًا عن ضمير الأمّة. في المقابل، يُحدِّد وظيفتها في البناء الشعريّ بمنحها الشّاعر القدرة على الإشارة السريعة إلى الأحداث دون سرد أو تقرير، فتستحيل إلى رموز وصورة تشيع في مفاصل القصيدة وأجزائها وتضمن لها صفة التماسك الحتمي والوحدة العضوية. كما تيسّر للقارئ سبيل المشاركة في تجارب الشّاعر، فضيف إلى حسِّه بالدهشة والغرابة، ذلك الحسّ بالألفة حين يدخل عوالمه.
نظر خليل حاوي إلى الأساطير التي يحملها التراث الشعبيّ، على أن فيها طاقة تعبّر تعبيرًا تلقائيًا عن ضمير الأمّة
يُضيف حاوي إلى ما ذكره أنّ الأصيل من الشِّعر الحديث يفترق عمّا سبقه بالنزوع إلى التجسيد أو التعبير بالصورة الحسّية المحدودة عن مضاعفات شعوريّة ونطاقات فكريّة غير محدّدة، يسعفه ويتّحد به الإيقاع الداخلي النابع من طبيعة التجربة وما تنطوي عليه من انسياب وانعطاف وتنوّع. وهنا يوضّح حاوي بأنّ الشِّعر قبل ثورة الحداثة كانت تغلب عليه صفة التعبير المباشر والإيقاع المجرَّد، وهي صفة يفرضها على طبيعة التجربة الالتزام ووحدة الوزن والقافية، وما ينطوي على هذه الوحدة من اتِّساق يبلغ أحيانًا حدّ الرتابة.
تناول مؤلّف "لعازر" للشِّعر الحديث، سيصل به إلى الشّاعر الحديث، حيث يُبيّن العقبات التي تواجهه في مساره هذا باتّجاه الحداثة، مثل التقصّد في طلب الجديد الذي يعني البحث عن التفرّد والجدّة اللذان سيعيقان الشّاعر حتمًا عن بلوغ هذه الغاية، لأنّ تقصّد الجدّة يعني أنّ محاولاته الشّعرية لن تكون معنية ببلورة ما غمض نفسه، وإزاحة الضباب من دربه بهدف تحديد معالمها، أي تجربته الشّعرية الذي يجب أن يقوده إليها حدس غامض، وليس نظرية ما تأتي جاهزة ومقرّرة.
اقرأ/ي أيضًا: