كثيرا ما يُنظر إلى الشعر بوصفه رئة اللغة، وجسرها إلى المجاز، ومنه إلى محاولة إيجاد مدخل مختلف للواقع أو بناء واقع مختلف عبر الرمز والإحالات والأساطير والطبيعة. وبهذا المنحى أو ذاك يجلس الشعر في مكان ملتبس في القول والإشارات، التباس يستعمله الشاعر في بنائه سواء باستدعاء "الشرط الإنساني" متسربًا إلى فضاء أرحب من الواقع أو باستدعاء الأساطير والتماثل معها للهيام فوق هذا الواقع والتقاطه.
في بقعتنا من العالم حيث الخراب المكتمل هو سمة هذا الواقع، يقف الشعر أمام معضلة كبرى في تصديه للحياة. وهو تصد تبدو فيه اللغة حقل تمثيل موازيًا للواقع
وفي بقعتنا من العالم حيث الخراب المكتمل هو سمة هذا الواقع، يقف الشعر أمام معضلة كبرى في تصديه للحياة. وهو تصد تبدو فيه اللغة حقل تمثيل موازيًا للواقع الذي ينطلق منه الشاعر ويعالجه، بركونه إلى الرفعة اللغوية والتصويرية في بناء القصيدة. وفي هذا الاقتصاد الباذخ، بين لغة طائرة فوق الواقع، وأحاسيس جياشة تستدعي الأساطير والطبيعة، يصبح الواقع كسراب الصحراء في القول، تسافر إليه القصيدة على خرائط بيضاء.
عند ذاك يبدو الشعر، بجماليته وعبقريته، شعرًا انطباعيًا، وممثلًا لأصولية فنية غنّاء، تولد أنطولوجيات نوستالجية تعيد تدوير الذاتية والطبيعة والموروث التراجيدي في صناعة الإطناب. وهذا المنحى سبق له وجمع مسارات عدة في مدرسة كانت قبل حين قد كرست السجع والطباق والوزن والترصيع وأدوات الطبيعة عناصر لا غنى عنها في إضبارة التذوق والفروسية الشاعرية، وأداة قياس للاحاسيس. وكان هذا كفيلًا بجعل الواقع، على هول فواجعه، يظهر كسبحة في يد الشاعر وهو يتنزه بين الأساطير مغالبًا "حنينًا" أو يوقظه "قلب" متشوق أو متحرق.
هذا المنحى في الشعر العربي والمشرقي يعمل على إنشائية صورية متضاربة المنطلق والهدف. إنشائية تستحضر الأساطير والطبيعة بصوت مزدوج يهدر فيه التاريخ والتراجيديا والعنفوان في آن، مترافقة مع روح تائبة متضرعة ومتنسكة ومغدورة أحيانا كثيرة. وهو اقتباس من تقليد حداثي أيديولوجي يحاول المواءمة بين مظلومية في السردية وشمشونية في اللغة. وهذا عطب يقيم في متن تناقضات حداثتنا المشرقية في نُسختها عن تناقضات الحداثة الغربية، وفي ثيمات قامت عليها هذه الأخيرة وقدمتها اقتراحًا خلاصيًا بعد سيطرة العلم على الحياة. فالحداثة الغربية أقامت في مفترق مهلوس بين الانتصار على الطبيعة وتطويعها وبين بقاء سطوة الطبيعة المزدرية على البشرية، من جهة وبين موت الله وظهور الأيديولوجيات الخلاصية مقابل بقاء سطوة الله وملائكته ومذابحهم في متون المجتمعات، ومن ثم تقهقر تلك الأيديولوجيات في مسار عنف وحروب وانهيارات كونية ومجرات خراب وعسف نعيشه حتى الآن.
وعلى هذا فإن الذات الشعرية تلك، تتشكل في نوع من عملية دمج توائم في خلطتها السحرية: السطوة والانكسار في آن. وفي مشهدية مزركشة ومرصعة بالأحاسيس والصور والإحالات الغزيرة. وهذه استراتيجية رومنسية عالية، يصبح فيها الشاعر جنرالًا يطوع الصورة في خدمة هجومه على الواقع، لالتقاطه، ومن ثم، عندما يتنبه إلى ارتداد الواقع عليه واستحالة تطويعه، يركن إلى شجرة زيتون، أو يحمل غصن غار، أو يتغزل بأقحوانة، أو يتخذ من النهر والبحر والسماء مساحة لغوية، أو يؤثث مهجع ناسك غناء ومحب يفيض بأحاسيسه التائبة أو الخاسرة.
يشيح الشعر عن استخلاص الاعتراف بأنه يعيش في أمة قتلة ومغتصبين، ويفشل في استحضار الندم والمثول أمام "الشرط الإنساني" بعري ورفعة
هذا النوع من الشعر الاستدعائي يبني مساحة عرض موازية للواقع، يقدم من خلالها الشاعر تصوره الرديف للقارئ، والنص هنا يعمل كشاشة بث، أو كنقطة تشابك بين "تذوق" القارئ المتلقف لصور الشاعر، وسلطة الصور تلك على القارئ. وفي هذه المساحة بين هاتين السلطتين، تتظهر الصور والأصوات الشعرية كلغة في مدار تفاوض حسي وفني، بين وطأة ما يريد الشاعر قوله وما يريد القارئ تلقفه. وفي حالتنا هذه يسيطر الشاعر على هذه المساحة الوسيطة عبر توحيد المتخيل والرمزي في مواجهة معايشة الواقع، فيخرج الشعر كصيحات شمشونية.
والمسارات التي يتجاهلها هذا الشعر هي مجموعة اعتراضات مؤسسة لسؤال الشعر، تبدأ بالتنقيب عن سبل تصدي الشاعر لمنطق صناعة الخراب، وتعديل مستويات النظر ليلحظ "الذات في الواقع"، عوضًا عن تلافي إعادة إنتاج الأوهام المؤسسة للفقاعات التاريخية التي تنتجها الأساطير والسرديات. وفي ذلك يشيح هذا الشعر عن استخلاص الاعتراف بأنه يعيش في أمة قتلة ومغتصبين، ويفشل في استحضار الندم والمثول أمام "الشرط الإنساني" بعري ورفعة، دون تبني عنفه أو التغاضي عنه عبر تبرير العنف بالعنف أو استدعاء التصوف تارة والانطباعية الغنّاء تارة أخرى. يفشل هذا الشعر، في معرض ادعائه معالجة "الأسئلة الكبرى" أن يتنبه للتوقف أمام بديهيه شعرية: كيف تتذكر وماذا تتذكر؟ ما الذي تحمله معك في خسائرك التراجيدية وما الذي تتركه في أرض المعركة؟ هذا النوع من الشعرهو رابح دائمًا حتى في موته، وهو يشبه شعر المنتصرين لإقامتهم في الركام.