آلاف القبور مجهولة الهويّة اكتُشفت في أنحاء مختلفة من كندا عام 2021، ليصحو الكنديون على أنّ دولتهم إنّما بُنيت على عظام السكّان الأصليين. بعد 138 سنة خرج جميع القتلى من قبورهم، التي أمل حافروها أن تُصبح منسية، خرجوا منادين بحقّهم وبمحاسبة القتلة كاشفين عن مذابح ارتكبت بحقّهم على مدى أعوام طويلة.
بعد ذلك بعام اكتُشف في قرية الطنطورة الفلسطينية رفات أكثر من مئتي شهيد تمّ قتلهم من قبل لواء الاسكندروني يوم 23 أيار/مايو من عام 1948، وقد شهد جنود شاركوا في المذبحة بأنّهم قتلوا مدنيين ولم تحدث معركة. رفض سكّان الطنطورة مغادرة بيوتهم وأراضيهم فتمّ قتل معظمهم ودفنهم في حفرة كبيرة، حسب أقوال الشهود. وقد تفاعلت هذه القضية على مدى أعوام طويلة إذ إنّها بدأت عام 2000 عبر رسالة ماجستير لطالب في جامعة حيفا اسمه تيودور كاتس، ولكنّه تعرّض للتكذيب وتمّ كتم صوته وعوقبت الدكتورة التي أشرفت على رسالته وأعطته علامة 97/100. ليأتي فيلم وثائقي عام 2022 ويكشف كل شيء بالصوت والصورة.
بعد أربعة وسبعين عامًا، خرج الفلسطينيون من قبورهم وأعلنوا تمسّكهم بأرضهم، وبدأت تتكشّف تفاصيل كثيرة عن المذبحة، وساد شعور عارم أنّ مذابح كثيرة قد تمّ ارتكابها، وأن أراضي فلسطين تضمّ جثامين مئات الألوف من الشهداء الذين لا ذنب لهم سوى أنّهم رفضوا مغادرة بيوتهم. جميعهم ينتظرون أن يتمّ الكشف عنهم وبهذا تصل رسالتهم الواضحة، نحن أبناء هذه الأرض وترابها معجون بدمائنا. ليست جملة شعرية أو مجازًا ما، إنّها حقيقة، هذه الأرض مليئة بعظام فلسطينيين عاشوا فيها على مدى آلاف الأعوام. وسوف تتكشّف الفظائع والمجازر يومًا بعد يوم وتنكشف كذبة أنّ فلسطين كانت أرضًا خالية تنتظر فقط من يسكنها، هي حقيقة يعرفها الجميع ولو أنكروا.
يزرع الشهداء أرض فلسطين بحقيقة واضحة لا يُمكن طمسها: هي أرض الفلسطينيين ويبقون فيها أحياءً يشهدون المجزرة، وأمواتًا يُذكّرون بها؛ وجميعهم يُنادون بالحساب
واليوم تشنّ العصابات الصهيونية حربًا لا هوادة فيها ضدّ أكثر من مليونيّ فلسطيني في قطاع غزّة، أغلبهم لاجئون من قرى ومدن فلسطين التي احتُلّت عام 1948، لقد اختار الكثير من الفلسطينيين البقاء في أرض فلسطين ولو في مناطق غير مناطقهم الأصلية، فهم بهذا يبقون في بلدهم؛ لذلك تنتشر المخيّمات حول مدن الضفة الغربية وقطاع غزّة، والتي تحوّلت إلى تجمّعات سكّانية كبيرة ينتظر أهلها لحظة العودة إلى مدنهم وقراهم، وبعضهم يقطن على مسافة قريبة بحيث يستطيع أن يرى منزله بالعين المجرّدة.
منذ بدء هذه الحرب على قطاع غزّة أعلن الجيش الصهيوني مناطق "آمنة" دعا سكان القطاع للّجوء إليها، ولكنّه ما لبث أن قصف تلك المناطق الآمنة وأعلن عن مناطق جديدة، وهكذا في محاولة لتهجير سكّان القطاع. لكنّ السكّان، وقد تعلّموا جيّدًا من درس النكبة، يتحرّكون في ما يُشبه دوائر بحيث يعودون دائمًا إلى الأماكن التي خرجوا منها مؤقتًا.
القيادة الصهيونية ترغب في إفراغ القطاع من سكّانه جميعًا وليس القضاء على حماس وقادتها فقط. كل ما يفعلونه هو القصف والهدم ومحاولة جعل قطاع غزّة مكانًا غير قابل للعيش. لكنّ الفلسطينيين يعيشون دائمًا، حتّى في أقسى الظروف، لذلك يقوم الجيش الصهيوني بالقصف العشوائي متعمّدًا هدم الأحياء بشكل منهجيّ، وقتل أكبر عدد من الناس. بينما الفلسطينيون يعلمون جيّدًا أنّهم وإن ماتوا فإنهم بذلك يبقون في أرضهم، ويُفشلون محاولة الصهاينة لإخراجهم.
هي الآن مجزرة جديدة لن تنتظر عشرات الأعوام لتنكشف، إنّها على الهواء مباشرةً، وكلّ ما سيحدث أنّ آلاف الشهداء الفلسطينيين الذي سقطوا عبر عشرات السنين منذ بدء النكبة سوف ينضمّون إلى الشهداء الجدد زارعين أرض فلسطين بحقيقة واضحة لا يُمكن طمسها: هي أرض الفلسطينيين ويبقون فيها أحياءً يشهدون المجزرة، وأمواتًا يُذكّرون بها؛ وجميعهم يُنادون بالحساب.
