"إذا كان لا بد أن أموت فليأتِ موتي بالأمل.. وليصبحْ حكاية" (رفعت)
إن حكايات العيش الرغيد واحدة، كما قال تولستوي، والمآسي وحدها هي التي تنتظم حكاية حكايةً على قدّ أصحابها. لكن، ومع اتساع رقعة الموت والاغتيال الجماعي، نلتجئ حكمًا إلى بضع حكايات فيها من الطاقة الأيقونية ما يعين على التعبير عن مرارة الفقد الذي لا ينضب اليوم في قطاع غزّة.
من بين هذه الحكايات، حكاية الشهيد الدكتور رفعت العرعير، إن لم تكن هي أمّ الحكايات وأكثرها رمزيّة في كتاب الشهداء الذين واجهوا جحيم هذا الاحتلال وأرّقه وجودهم. رفعت، أستاذ للأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزّة، قتله الاحتلال في السابع من كانون أول/ديسمبر. لمعرفة سيرته، لن يلزمك إلا طباعة سيل المنشورات التي لم تتوقف منذ ليلة اغتياله من أصدقائه وطلبته وزملائه ومعارفه من داخل القطاع ومن خارجه. فهو "الغزاوي الشجاعي حتى النخاع"، من "دار العالم كلّه واختار غزّة بيتًا.. أصدق الصادقين، وسيد الشهداء"، كما نعاه الصحفي ياسر عاشور، الذي ربطته بالدكتور رفعت علاقة وثيقة، ووثّق عنه شهادات عديدة يحكي فيها كيف أنّه كان يسأل عن الجميع في أشدّ الظروف القاهرة خلال هذا العدوان، ويتواصل مع من أمكن من الطلبة والزملاء والجيران، ويطمئن عليهم ويسأل عن احتياجاتهم.
رفعت العرعير، أكاديمي لم يتخلّف يومًا عن موعد درس لا طالبًا ولا معلّمًا قبل هذه الحرب التي أتت على كل شيء. يقول في إحدى محاضراته إن السبب وراء التزامه المطلق بالحضور هو القصص التي كان يسمعها عن أمّه ومنها، كيف كانت تخاطر بحياتها من أجل أن تصل إلى المدرسة وتأخذ نصيبها من التعليم رغمًا عن الاحتلال، وكيف أن ذلك كان ليكلّفها حياتها في أحد الأيام. يخبرنا رفعت أن هذا هو نوع الحكايات التي حفظها، ومنها تلك التي يرويها عن جدّته بعد أن يفرغ من شرب الشاي الحلو من يد جدّه الذي يكبر إسرائيل عمرًا ويفوقها اعتبارًا. نشأ رفعت متحديًا باللغة والحكايات أقدارًا عديدة ثاكلة، فدرس هو الآخر مثلما درست أمّه في ظروف لا تقل خطرًا وحرمانًا من أبسط الحقوق، حتى حصّل باقتدار درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي في كلية لندن عام 2007، والدكتوراه من جامعة أخرى عريقة في ماليزيا، هي جامعة بوترا، والتي ترسّخ لديه فيها إيمانه بواجب خدمة الإنسان مجتمعه بما يملك من معرفة.
ثم عاد رفعت سريعًا ليدرّس الأدب واللغويات الإنجليزية والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسلامية في غزّة، تلك الجامعة التي لم تكتف إسرائيل بتدميرها كمكان قائم يعدّ من الأساسات الحيويّة في القطاع، بل وراحت تستهدف كل أستاذ ومعيد فيها وفي سواها من الجامعات ودور العلم، تمامًا مثلما فعلت وهي تلاحق الأطباء بعد أن خربت المستشفيات، فقتلت أعدادًا كبيرة منهم، مع الحرص (كما يخبر الدكتور غسّان أبو ستّة) على القضاء على أصحاب التخصصات الدقيقة، القليلة أعدادهم أصلًا في القطاع، والذين يعني موتهم موت مرضاهم من بعدهم.
كان يعلم رفعت، أن ثمة اغتيالًا قريبًا ينتظره، وأنّه مدرج في قائمة الأهداف الإسرائيلية، كأحد "مصادر القوّة" (Power Targets)، كما يسمّيها نظام الحبسورا الذي يولّد الأهداف من أجل تلقيمها لأنظمة التوجيه في الطائرات الحربية والدبابات كي تظلّ تدكّ غزّة بلا توقّف. وحقًا كان العرعير من "مصادر القوّة" الفريدة في قطاع غزّة، حارسًا لحكاياتها ومترجمًا لها. لقد كان مثلما نعاه أحد أصدقائه، أحد أكثر الشخصيات العامّة تأثيرًا وحضورًا في المجتمع الغزّي، كما يؤكّد الدكتور رامي عبده في تغريدة قال فيها: "إن كان للشجاعة اسم فاسمها رفعت العرعير، وإن كان لفلسطين صوت فصوتها رفعت العرعير، وإن كان للإعلام سيف فاسمه رفعت العرعير، وإن كان في الأكاديميا معلم فاسمه رفعت العرعير، وإن كان للشباب نبراس فاسمه رفعت العرعير، وإن كان للعدو قاهر فاسمه رفعت العرعير".
في شهادة طويلة أخرى، يقول عنه الأكاديمي الفلسطيني ومواطنه الغزاوي جهاد أبو سليم:
بذل الشهيد رفعت من نفسه كلّ هذا الكرم النبيل، بالمعرفة والأدب والتكاتب المجتمعي والقراءة، وباللغة التي رآها مادّة حياته التي كان يسعه التحكّم بها رغم الحصار الذي يعطّل إحساس البشر بأنفسهم، وهم في حالة يضطرون معها لأن يكونوا هم الضحايا وهم الشهود في آن معًا، أن يموتوا ويكتبوا سيرة موتهم، لأن ذلك وحده تقريبًا هو جلّ ما تبقّى لهم. تشبّث رفعت بالرواية والشعر وأخلد بأرضهما، وبثّ روحًا فريدة في كل نصّ مختار من عيون الأدب الإنجليزي وهو يحللها مع الطلبة في المحاضرات التي أخذ على نفسه تسجيلها وتوثيقها على الإنترنت، مصرًا على توثيق كلّ تلك الطاقة الحيّة التي كان يتهدّدها الاحتلال، لأنّها في ذاتها وعلى حالتها تلك وحسب (أستاذ جامعي يدرّس الأدب، ويناقش الأدب العالمي مع أعداد كبيرة من الطلبة اللامعين، في جوّ من الحرية والتفكير النقدي والرغبة في اكتشاف الذات والعالم)، هي تهديد له.
كان رفعت، الذي حافظ على صورة الفلسطيني الجامعة بين البساطة والكبرياء، مثقفًا عضويًا يسابق الاحتلال وأشباح الموت الذي يطلقها وراء الحياة الفلسطينية في غزة والقطاع، يدرك ضرورة أن يصل جهوده بالتدريس والدعوة العامّة إلى كتابة هذه الحياة وتبيان جمالها المركّب، وهو ما جعله يطلق مشروع "نحن لسنا أرقامًا"، قبل عدّة أعوام، وهو يعلم على الأرجح وعلى نحو فاجع أنّه مشروع مفتوح، وأن قصص الشهداء تستعصي على الكتابة من كثرتها.
بدأت الحرب التي أرادها الاحتلال أن تكون الأخيرة على غزّة. في أيامها الأولى، وتحديدًا في التاسع من تشرين أول/أكتوبر، كان الموت على مسافة واحدة من رفعت وبقية الناس من حوله في شمال القطاع، فكتب وهو يشاهد القصف القريب من نافذة المنزل أنّ ذلك قد يكون يومه الأخير، وهو الأب ذو الأطفال الستة. ورغم اقتراب الموت، راح رفعت يقاومه متحركًا في اتجاهين، في اتجاه الكتابة ومحاولة تفنيد الروايات الإسرائيلية، وفي اتجاه دعم صمود الناس، حين ظل يسعى في خدمة الجيران، فيوفّر ما يستطيع من فضل الماء والخبز والتمر والمأوى والمال، كما يليق بمثقف عضوي حقيقي أن يفعل.
في الرابع من كانون أول/ديسمبر، كتب رفعت على حسابه على "أكس": "قد نموت هذا الفجر. أتمنى لو كنت مقاومًا، فأموت وأنا أتصدى لهؤلاء الأوباش الإسرائيليين القادمين بالإبادة إلى الحي الذي أسكنه والمدينة التي أعيش فيها". ترصّد له الموت فجر ذلك اليوم، ثم حسم وجوده بعد أن استمرّ بالحياة والشهود الكامل للمجزرة، ثلاثة أيام أخريات وحسب، مدركًا أن القلم، سلاحه الوحيد الذي أعلن أنّه سيستخدمه لو تسنّى له، قد قاده إلى هذا الحتف العميم، الذي توقّعه، وطالما تحضّر له، عبر الإصرار على كتابة حياة غزّة التي تصرّ إسرائيل على محوها.
كان لرفعت حلم كبير، أن يستطيع تغيير شيء ما في هذا العالم، عبر تدريس الشعر والأدب وتعليم الكتابة، وجمع حكايات الغزيين المتناثرة والمتداخلة مع حكايته، وحفظ رواياتهم وأصواتهم وأسمائهم أو إرجاء نسيانها. فعل رفعت العرعير ذلك بأحسن وأنبل ما يمكن لإنسان في مثل هذه الظروف القاهرة أن يفعل، متشبّثًا حتى الدقائق الأخيرة من عمره، بحقيقة أن "الكتابة شهادة، وذكرى باقية بعدنا، وواجب تجاه أنفسنا والعالم، لكي نتذكر دومًا أننا عشنا لغاية ما، ولكي نروي حكايات الخسارة والصمود والأمل".
قبل استشهاده بأيّام، كتب رفعت قصيدة بالإنجليزية، كانت هي آخر ما كتب، وهذه ترجمتها*:
"إذا كان لا بد أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطا
(فلتكن بيضاء وبذيل طويل)
كي يبصر طفل في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظراً أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودع أحداً
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقيّة
طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
وليصبح حكاية"
* ترجمة الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون