يمكنُ التصريحُ، وفي كل وقت، بأن الشعر عاجل وأبدي. مقصد هذا الكلام يكمن في كون الشعر يريد إعادة النظر مع زمنه (الماضي/ الحاضر) وهو ما فتئ ينتجُ رؤى وأشكالًا تلائم العالم المتسارع ذلك أن الموقف الذي يتخذه أي شاعر إزاء المتغيرات العصرية يتطلب ليس وعيًا شعريًا فحسب إنما وعيًا إنسانيًا وفكريًا أيضًا.
ظهر بعد الحرب العالمية الأولى مصطلح شعراء الحرب، والذي لم يكن يعني الشعراء الذين شاركوا في المعركة كجنود أو كصحفيين أو ممرضين، إنما الشعراء الذين اتخذوا الحرب موضوعًا شعريًا
ظهر بعد الحرب العالمية الأولى مصطلح شعراء الحرب، والذي لم يكن يعني الشعراء الذين شاركوا في المعركة كجنود أو كصحفيين أو ممرضين، إنما الشعراء الذين اتخذوا الحرب موضوعًا شعريًا حاولوا عبره رفض الحرب أو وصفها؛ فشاعر الحرب هو ذلك المتمرد الذي يرى في الحرب كارثة إنسانية مدمرة.
ليس الشعر اليوم حدسًا عاطفيًا فحسب، بل عملية واعية يسعى الشاعر من خلاله تجاوز زمنه أو صنع منظاره الخاص وبالتطرق إلى ما نعيشه اليوم من شبحِ حربٍ عالمية ثالثة فإن الشعراء ينقسمون مرة أخرى؛ شعراء يناهضون الحرب وآخرين ينضوون تحت جناح دون آخر يدفعهم النزوع الأيديولوجي لأنظمتهم، الأمر الذي يعيد لنا صورة من صور الأدب وقت قدمَ نفسه قربانًا ضمن تعبئة قومية لمناصرة نظام دموي مثل نظام البعث في حربه مع إيران، إذ حاول إيهام العالم بأنها حرب لاستعادة الشرف العربي مستندًا على الرموز التاريخية والدينية في خطابه الحماسي السائد والمعروف.
انتعش الشعر العربي خلال تاريخه أيما انتعاش في الحروب والغزوات فكانت الحرب أشبه بالماراثون بين الشعراء لإثبات قوة شاعريتهم من خلال تجسيد الفضائل العربية من بطولة وكرم وإيثار أو من خلال رثاء القتلى، فحرب داحس والغبراء استمرت أربعين عامًا استهلكت شعرًا كثيرًا لعدد من الشعراء الكبار مثل عنترة العبسي وقيس بن زهير والربيع بن زياد وزهير بن أبي سلمى، صاحب الموقف الشعري الفريد في الصلح بين المتحاربين.
إن الشاعر بوصفه أحد صناع الجمال ومروضي اللغة الخشنة ينبغي أن يكون له صوت مغاير للحماس الفوري، وأن ينتج نصًا جماليًا يتعامل ضمنه مع الحرب كمادة لترسيخ رؤيته الإنسانية بدلًا من أن يتحول إلى خطاب ينضوي تحت ظل إحدى القوى المتصارعة، وذلك ما يتجلى في رفض شاعرة غريبة الأطوار مثل إميلي ديكنسون في قولها:
"من الخزي أن تكون حيًا
عندما يموت الرجال الشجعان".
أو في قول ناديا تويني: "أكتب لأني لا أجيد استخدام المسدس".
وهو موقفٌ يشم منه القارئ رفضًا للحرب أكثر مما هو تمجيد للحظة الكتابة.
إن حدثًا مفجعًا مثل الحرب- أي حرب سواء كانت عالمية أو أهلية- بما يشكله من انقلاب في القيم والثقافات، يعيد مرة أخرى السؤال عن دور الشاعر كما لو أن الشاعر لا يوجد إنما يستدعى، ولذلك تتم الاستعانة بالشعراء أوقات الحرب بشكل جلي، فيتم تأليف الأغاني وإنشاء الجوائز وفسح مكان للشعر كصوت ملازم للمدفعية على نحو شعار صدام حسين الشهير "القلم والبندقية فوهة واحدة".
إن أول موقف غير قابل للنقاش من الحرب هو رفضها تمامًا، لأن أي حرب هي عمياء ستدوس بأقدامها كل ما يصادف طريقها كما يعبّرُ سيغموند فرويد، ولأن حتى الانتصار الذي يتم تمجيده والتغني به غالبًا هو انتصار مليء بالضحايا، يا لها من لحظة تاريخيّة مريرة أن يتحول الضحية إلى عدو لا يحرك مقتله أي شعور إنساني بالشفقة أو بالندم.
إن أول موقف غير قابل للنقاش من الحرب هو رفضها تمامًا، لأن أي حرب هي عمياء ستدوس بأقدامها كل ما يصادف طريقها
ينبغي إذًا أن تنطلق مواقفنا إزاء الحروب من اعتبار أننا ضحايا مؤجلون، وأن القتلى هم نحن، الأسرى هم إخوتنا، الجثث هي جثث أطفالنا وأحبائنا، في المحصلة جميعا ضحايا في جغرافيات متباعدة وتواريخ مختلفة لظروف ما وليست تلك عبارة تشاؤمية بالطبع.
ضمن السياق نفسه وأنا أكتب تلك المادة في طريقي إلى العمل صادفتُ على الفيسبوك منشورًا لشاعر عراقي قال فيه بالنص إنه "مع بوتين حقًا أو باطلًا لأنه لا بد من قطب ثان لمواجهة القطب الأمريكي"، وهو يشبه موقف كنعان مكية إذ شبه وقتها الصواريخ الأمريكية التي قصفت العراق بالموسيقى، وإنني أجزم أن هذا الشاعر إذا حدثت أي حرب أهلية سيكون موقفه مشابهًا لهذا الموقف، فقد رأى أن مقدمة "وجود قطب ثان" مبررة لحدوث احتلالٍ روسي لأي بلد رغم عواقبه الكارثية.
الحرب في كل مكان وتحت أي ظرف هي ثقافة مروعة ودموية تستنزف القدرات الإنسانية وتكشف عن غريزة الكراهية والثأر، بمعنى آخر هي تكشف بدائية الإنسان سواء كان جنديًا أو زعيمًا أو شاعرًا، لهذا ينبغي على الشاعر أن يصير مثاليًا لا واقعيًا، أن يرى أنّ رصاصة طائشة يمكن أن تقتل نسمة هواء عابرة بين غصني شجرة مثلًا.