سأقول دون مقدمات وتوابل بأن المتعة هي شرط أساسي في الشعر عند قراءته وعند كتابته أيضًا، وتلك المتعة لا تتحصلُ ترجمتها عبر الانفعال العابر فحسب، إنما عبر الاتصال والانسجام مع العمل الفني الذي يترك أثرًا لافتًا في ذهن قارئ لديه استعداد وسبيل لقراءة هذا العمل أو ذاك، القراءة ليست واجبًا، إنها نزوع نحو المتعة والمعرفة، فضول يومي لا يمكن ولا ينبغي إشباعه.
القراءة ليست واجبًا، إنها نزوع نحو المتعة والمعرفة، فضول يومي لا يمكن ولا ينبغي إشباعه
كما يتطلب اللعب أو الرقص على سبيل المثال تمرينًا خاصًا لإبقاء الجسد مرنًا، يتطلب الذهن تمارينه اللازمة لكي يظل يقظًا. تمارين في القراءة وتمارين في الكتابة أيضًا، فقراءة عمل إبداعي تستدعي الإنصات لصوت مبدع العمل وبطله والآثار التي تترسخ في الذاكرة، والحال نفسه عند القيام بكتابة قصيدة أو قصة. إن المبدعين على مر التاريخ هم متدربون جيدون بالنسبة لي.
اقرأ/ي أيضًا: أصوات من العراق.. الشِّعر وجه وهوية
أنت كقارئ أو كشاعر لاعبٌ بصحة جيدة الآن، لكن ينبغي عليك الحفاظ على لياقتك أيضًا وهو أمر يفرض عليك التمرين اليومي، ومن خلال حدسك اليقظ وسبل أخرى يتاحُ لك التأكد من حسن الأداء وقوة الملاحظة، من دقة التصويب والروح الرياضية التي تتمتع فيها داخل الساحة أو خارجها.
في العقود الأخيرة انتاب الشعراءُ والقراء الخوف نفسه من أنّ الحداثة بإفرازاتها التي هددت قوانين اللعبة ستؤدي إلى موت اللعبة أو تشويه طعمها، فأحس الشعراء بالرعب من أن زمن موت الشعر سيستمر طويلًا، من أن الإيقاع والوزن سيفقدان الشعر جمهوره، من أن أحدًا لن يلاحظ الشاعر المعاصر عندما سيسجل هدفًا، على الأقل أن هذا النحو مأساوي إذا تقبلنا مشهد شاعر يدور في الملعب وحيدًا دون أن يصفق له الجميع.
لكن اللعب استمر وتم استثمار الخوف ذاته بابتكار فعاليات كتابة جديدة، وراحت قصيدة النثر على سبيل الخصوص تعيد صناعة لا شعراء جددًا فحسب، إنما جمهورًا جديدًا يقبل على قراءة النص بحساسية أعلى واطمئنان أقل، وأعني أن القارئ عاد مرة أخرى إلى فهم المتعة كمتعة آنية، مخلصًا نفسه من أعباء الخلود، خلود الشاعر وخلود القصيدة أيضًا.
يستهلكُ المخ البشري عشرين بالمئة من طاقة الإنسان رغم أن وزنه لا يشكل سوى اثنين بالمئة من كتلة الجسم. والإبداع جزء هام وحيوي من هذه الطاقة، فيمكننا إذًا مساعدة مخنا بمزيد من التركيز ومزيد من الخيال عبر الاستمتاع بالقراءة والكتابة، ثمة قراءة صحية وأخرى ضارة، والأمر ينسحب على الكتابةِ وهو عائد للرؤية التي ينطلق منها كل قارئ أو مبدع بالطبع.
نولد جميعًا كتّابًا وقراءً فطريين بالكاد نميز بين المزح والجد في القصة، بالكاد نفك الأحرف، نقع في الأخطاء ذاتها ومهاراتنا جميعًا بدائية، لكن التمارين المتواصلة هي التي تجعل من بعضنا مبدعين موهوبين، ومن البعض الآخر محض أسماء لا يميزها عن غيرها سوى الحياة المعاشة فحسب.
الشعر كلعبة له قواعد غابرة وأخرى متجددة، إلا أن الشاعر الحقيقي يلعب وفق مهاراته لا وفق احترامه للقواعد فحسب
لي أن أتخيل مباراة عجيبة بين لاعبين شهيرين، أحدهما أبو الطيب المتنبي والآخر هو بول فاليري، هما لاعبان يفصلهما الزمن واللغة والظرف الاجتماعي والتاريخي، لكن اللعبة حدثت من خلال استدعاء أرواحهما، المتنبي شاعر لا يشق له غبار، موهوب عظيم وواثق بنفسه، أما بول فاليري فهو قلقٌ وأقل موهبة لكن رؤيته للعب مغايرة تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: برنار نويل.. مقيمًا في الذاكرة
يقول المتنبي بترف وتعالٍ: أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصم. فيما يعتبر فاليري الومضة الشعرية أو الكلمة التي ترد ذهنه هي "هبة الآلهة " فيسارع لتسجيلها، وعندما تقام المباراة تلك بين لاعب مطمئن وآخر يحاول تمرين نفسه دومًا، فلعل الأول هو الذي سيخرج منها خاسرًا كما خسر الأرنب سباقه الشهير مع السلحفاة ذات مرة،. دعك من الواقع هذه المرة، ألسنا ندين بكل ما نكتبه الآن لقصص طفولتنا؟!
الشعر كلعبة له قواعد غابرة وأخرى متجددة، إلا أن الشاعر الحقيقي يلعب وفق مهاراته لا وفق احترامه للقواعد فحسب، ومن هذا المنطلق سيظل الشعر كنشاط ممتع وطفولي ومغامر بحاجة للمسات لاعب حساس وفوضوي وبوهيمي مثل ماردونا، لاعب قادر على أن يزيح رأسه جانبًا ليسجل هدفًا باليد.
اقرأ/ي أيضًا: