بداية شهر آذار /مارس الجاري، أعلن "الصندوق العالمي للتراث" إدراج أبنية بيروت التراثية على "لائحة المراقبة" لعام 2022. ويشكل إعلان الصندوق العالمي للتراث وضع كافة الأحياء المتضررة ضمن لائحة المواقع الأكثر تعرضًا للتهديد في العالم، محطة هامة في مسار تصور طموح لمدينة بيروت. هذه خطوة مهمة ستشجع حتمًا أصحاب القرار المحليين والمعنيين الدوليين لتكثيف الجهود والموارد لحماية وإعادة إحياء مدينة بيروت.
في 4 آب /أغسطس 2022، سدد انفجار المرفأ ضربة قاسية للقليل المتبقي من تراث بيروت المبني ونسيجه السكاني متنوع الثقافات. نشط عدد هائل من المنظمات الأهلية لمساعدة المدينة المنكوبة، وتشكلت عدة مبادرات منها "مبادرة بيروت للتراث" و "أنقذوا تراث بيروت" وغيرها من المبادرات والتجمعات المدنية والأهلية، وذلك بغية تنسيق جهود المجموعات الناشطة تراثيًا على الأرض والخبراء المهتمين. إضافة إلى تأمين تمويل وانجاز الأعمال الملحة من تدعيم وتغطية مؤقتة، والترميم المعماري لمنازل منفردة ومجموعات، ومواصلة الجهود لبلورة خطة تعافي متكاملة ودامجة.
وفي بيان صحفي ل"مبادرة بيروت للتراث" جاء ما يلي: "منذ بداية تطبيق المخطط التوجيهي للعاصمة سنة 1954 بكثافات عمرانية مرتفعة خصصت لأقدم أحياء العاصمة، أصبحت تلك المناطق الخصم الأول وهدف المضاربات العقارية. أدى هذا التكثيف، وما تلاه من توسعة شوارع وشق جادات وطرق سريعة، إلى تغيير النسيج الاجتماعي النابض والمتنوع الذي عرفته تلك الشوارع السكنية الهادئة، كما المجموعات التراثية والأحواش المتواضعة، كما المنازل الفخمة ومساكن الحداثة الأولى". وأضاف البيان "مع بداية النزاع المسلح عام 1975 وحتى 1990، سرعت وتيرة التحول السكاني والعمراني، وجاءت من بعدها فقاعة عقارية ضخمة ساهم في تغذيتها مشروع سوليدير لإعادة تطوير الوسط التجاري".
وقال المهندس المعماري والخبير في مجال التصميم المدني، عبد الحليم جبر، في حديثه لألتراصوت "هذا رابع موقع لبناني يدرج على لائحة مراقبة التراث العالمي بعد معرض رشيد كرامي في مدينة طرابلس، ودالية الروشة (الصخرة وميناء الصيادين) على شاطئ بيروت، وقصر "حنيني في زقاق البلاط، وأخيرًا، أدرجت كل الأبنية التراثية في بيروت ومحيط المرفأ".
يشكل إعلان الصندوق العالمي للتراث وضع كافة الأحياء المتضررة ضمن لائحة المواقع الأكثر تعرضًا للتهديد في العالم، محطة هامة في مسار تصور طموح لمدينة بيروت
يشير جبر، العضو في مبادرة بيروت للتراث، "العملية ليست تلقائية ولا تصدر من قبل الصندوق العالمي للتراث"، ويضيف "هناك جهة تقدم الملف، ونحن كمبادرة بيروت للتراث قدمنا الملف السنة الماضية"، وأشار إلى أن ميزة هذا القرار "أنه يوفر الخبرات الدولية والمعرفة والفرص لمساعدة الدولة اللبنانية في الحفاظ على التراث المديني العمراني"، لكن لا شيء "ملزم بشكل مفعول قانوني لهذا القرار".
ويعدد جبر التحديات التي تواجه المشهد التراثي في لبنان وفي بيروت تحديدًا ومنها "التخطيط وقانون البناء، والمضاربات العقارية هي أكبر عدو للتراث المبني في مدن لبنان"، ويتابع بالقول "انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس شكل ضربة مؤلمة هددت التراث في مدينة بيروت". يضاف إلى هذه الصعوبات مشكلة التمويل، والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات التي لحقت بالأبنية التراثية في بيروت جراء انفجار المرفأ عام 2020.
يؤكد جبر أن "ما يهم هو إيصال فكرة للرأي العام عن الحجم النوعي للتحدي وليس فقط التحدي الكمي لجهة عدد الأبنية المتضررة وتكاليف ترميمها"، ويرى أن "انفجار الرابع من آب غير وجه المدينة، فالتراث ليس فقط ما نراه وإنما النسيج الثقافي والاجتماعي الظاهر وغير الظاهر، كالموسيقى والمسرح والفنون والمتاحف والمؤسسات الصغيرة، فهناك جزء من هوية المدينة تضرر، لأن الهوية ليست فقط هوية معمارية".
يشار إلى أنه في حال اعتماد التعريف القانوني وفق المقياس الزمني الذي تتبعه مديرية الآثار في وزارة الثقافة من سنة 1933، فإن عدد الأبنية التراثية في بيروت يقدر بالمئات. لكن في حال اعتماد التعريف الأشمل الاجتماعي والاقتصادي لمصطلح التراث وحتى عام 1970، يمكن حينها الحديث عن آلاف الأبنية الأثرية، وفق ما يشير جبر. ويضيف "عندما نبدأ برؤية المدينة كنسيج وليس كأبنية منفردة نصبح أمام تشكيل عمراني واجتماعي معين بهوية تراثية".
اقرأ/ي أيضًا: ما هي نترات الأمونيوم التي سببت انفجار بيروت المدمّر؟
لكن في المقابل، يعتبر جبر، أنه "قبل انفجار المرفأ كان هناك صعوبة في إقناع الناس بضرورة الحفاظ على التراث المديني، ولكن بعد حدوث الانفجار باتت المسألة قضية رأي عام"، وباتت المهمة حث أصحاب القرار في الدولة اللبنانية على العمل بشكل فاعل في سبيل تحقيق أهداف هذه القضية، سيما لعدم وجود أي فعالية في الوزارات المعنية ومن قبل الدولة اللبنانية بشكل عام.
وقد أقرت الدولة اللبنانية قانون رقم 194 القاضي بحماية المناطق المتضررة بعد انفجار الرابع من آب. يذكر أن القانون مدته سنتان وينص على منع أي عقود للبيع في المناطق المتضررة. في هذا السياق يشير جبر "ستنتهي مدة مفعول هذا القانون ولم يطبق أي بند منه"، وبرأيه هناك "خشية حين انتهاء مفعول هذا القانون من بروز حالات بيع وشراء". يذكر جبر أن القانون 194 يجمد قدرة الأفراد على إجراء عمليات البيع والشراء لكنه لا يمنع المؤسسات من إجراء هكذا عمليات. ويتخوف أنه في المستقبل القريب "بعد انتهاء مفعول القانون ربما سنكتشف عمليات بيع وشراء لأبنية تراثية متضررة". ويصف جهود الدولة بأنه "أقل من رفع العتب وهي مشينة" وأما بلدية بيروت فكانت في "حالة غيبوبة"، والمساعدات اقتصرت على بعض التعويضات الرمزية فقط.
يشار إلى أن منظمة اليونسكو عملت بعد انفجار بيروت على هذه المسألة وأحصت أضرار 8 آلاف مبنى منها 640 مبنى أثري على الأقل، 60 منها مهدد بالانهيار بشكل كامل. وقد قامت عدة منظمات دولية بإصدار دراسات وأبحاث وإجراء مسح وقاعدة بيانات حول هذا التراث، ومن هذه المنظمات البنك الدولي ومديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية، ونقابة المهندسين وخبراء من الجامعة اللبنانية وغيرها من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الصحفية، ومنها المفكرة القانونية التي خصصت تقريرًا كاملًا حول القضية.
اقرأ/ي أيضًا: بيروت مدينة منكوبة: انفجار "رهيب"
يذكر بأن منظمة الصندوق العالمي للتراث تأسست عام 1996، وعملت على إصدارة قائمة بالأماكن التراثية المهددة، سواء نتيجة تغول الرأسمال العمراني والسياحي، أو الأعمال الإرهابية وغيرها من التهديدات. كما عملت على رفع الوعي وجمع التبرعات بملايين الدولارات لدعم هذه الأماكن التراثية حول العالم. ومن الأماكن المهددة جزيرة الفصح في تشيلي، ومنتزه أنغكور في كمبوديا، ومتحف الموصل العراقي.
وفي بيان أصدره الصندوق على إثر بدء المعارك في أوكرانيا جاء فيه "نحث على اتخاذ جميع الاحتياطات لحماية الأرواح وتجنب إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالتراث الثقافي في المنطقة"، وأضاف البيان "لقد كشفت تجربتنا مع التعافي بعد الأزمات في جميع أنحاء العالم، بأن عواقب الدمار تبقى دائمة على المجتمعات في المدى القريب والبعيد على حد سواء"، بحسب ما نقل موقع npr.
وقالت رئيسة الصندوق العالمي للتراث، بينيديكت دي مونتلاور، بأن "هناك تركيز لم يسبق له مثيل على المواقع المهددة بفعل تغير المناخ العالمي، وكذلك تركيز على تطوير حلول محلية للمشكلات العالمية يمكن عبرها إشراك المجتمع المحلي وتوعيته بأهمية هذا التراث"، وأضافت "هناك مسألتان مهمتان أيضًا نعمل عليهما وهما مسألة السياحة غير المتوازنة والتمثيل الناقص للأماكن التراثية".
وضمت اللوائح السابقة الآثار النوبية القديمة في السودان، والحي الصيني في كولكاتا، ونظام إدارة المياه القديم في البيرو. بينما ضمت لائحة الصندوق العالمي للتراث 20 موقعًا أثريًا لعام 2022، وشملت أيضًا مواقع عربية منها المدية التاريخية في بنغازي في ليبيا، ومنطقة أبيدوس الأثرية في مصر، والأهرامات الملكية لمملكة كوش في السودان، وأرخبيل سقطرى في اليمن.
اقرأ/ي أيضًا:
سنة على انفجار مرفأ بيروت.. غياب للحقيقة وعراقيل أمام العدالة