"آه ياللي يا للي يا للي
يا أبو العيون السود يا خلي
آه يللي يا للي يا للي
خليك على كيفك تملي"
في يوم الإثنين 25 نيسان/ أبريل عام 1859، وقف المسيو "دي لسيبس" في الموقع الذي تأسست عليه مدينة بورسعيد مع بعض الأجانب وجمع من العمال المصريين، وأعلن بداية العمل في حفر القناة وبناء مدينة غرب موقع القناة مباشرة، على منطقة ضيقة من الأرض المحصورة بين البحر الأبيض المتوسط شمالاً وبحيرة (المنزلة) جنوبًا. واسم مدينة بورسعيد مكون من كلمتين (بورت) وتعني ميناء وسعيد، وهو حاكم المدينة الذي بدأ المشروع في عهده. أما احتفاليات الضمة، التي اشتهرت بها بورسعيد فلها قصة أجمل.
تطورت الضمة من رقص للسمر يتسلى به العاملون في حفر قناة بورسعيد إلى ظاهرة فنية تميز المدينة
الضمة كاصطلاح لغوي وكما يعرفها الدكتور محمد شبانة في دراسته المستفيضة عن هذا الفن تعني: "الجماعة من الناس وغيرهم ينضم بعضهم إلى بعض وليس يجمعهم أصل واحد". ويذهب الباحثون إلى أن جلسات الضمة كانت تضم أقوامًا شتى تم جلبهم كي يعملوا في حفر القناة، فعندما بدأ الحفر في قناة السويس تم جلب كثير من العمال والمزارعين من شتى الأنحاء في مصر.
وظهرت العديد من الضمات: ضمة لأهل دمياط وضمة لأهل الصعيد وأخرى لأهل الشرقية ولكن أشهرها كانت ضمة أهل دمياط لمعرفتهم بألوان الغناء المتنوعة. وتطورت الضمة من مجرد سامر يتسلى به العاملون في حفر القناة إلى ظاهرة فنية تميز أهل بورسعيد.
والحركات الراقصة في الضمة تشبه كل ما يتصل بالبحر فالرقصة تشبه الصيادين وهم يجدفون، أو وهم يرمون الشباك في البحر، أو يتحركون حركات تشبه تصرفات الصيادين فوق المراكب.
اقرأ/ي أيضًا: الرقص الاعتقادي في مصر.. دروب الخلاص
معانٍ ارتبطت بالضمة
يطلق على الضمة في مدينة السويس "الصحبة" وتتشابه في محتواها مع الضمة البورسعيدية، وفي الإسكندرية تسمى بالصهبة، ولسيد درويش أغنية تراثية تسمى "يا صهبجية". الطريف أن جماعة الصهبجية اشتهروا بغناء الموشحات٬ التي جلبها الملحن شاكر الحلبي في القرن السابع عشر الميلادي من أهل حلب وهي بعض القدود والتواشيح.
مهن ارتبطت بالضمة
رغم تواضع المهن التي امتهنها أهل الضمة أو الصحبجية إلا أنهم لم يفكروا في امتهان الغناء أما المهن التي كانوا يعملون فيها فكانت على سبيل المثال: "الفرانين" ويقصد بها الخبازين. وأيضًا البمبوطية والمفرد "بمبوطي"٬ وهي كلمة مشتقة من الإنجليزية Man Boat أي رجل القارب، وربما Pump Boat أي القارب المندفع، والبمبوطي هو رجل يعمل في الميناء حيث يقوم ببيع البضائع للسفن العابرة، والتي ترسو في الميناء لفترة قصيرة في انتظار دورها للمرور عبر القناة. أما كلمة بمبوطي في العامية فتعني "الرجل المراوغ" وذلك لما اشتهر به باعة بورسعيد من مهارتهم فيما بعد في التجارة و البيع.
تأثرت الضمة بموجة تهجير الأهالي التي حدثت في مصر إثر العدوان الثلاثي وتحولت السمسمية من آلة الضمة إلى آلة مصاحبة للأغاني الوطنية
أثر التهجير على الضمة
تأثر فن الضمة بموجة تهجير الأهالي التي حدثت في مصر إثر العدوان الثلاثي على البلد عام 1956، تحولت السمسمية٬ من آلة الضمة إلى آلة معبرة ومصاحبة للأغاني الوطنية خلال تلك المرحلة٫ إلى رمز للمقاومة الشعبية، وتعرضت الضمة واحتفالاتها إلى شيء من الإهمال.
الضمة و التحول الإقتصادي
تفرقت السبل بالصحبجية (أهل الضمة) خاصة بعد نكسة 1967 حيث هاجر جميع أهالي بورسعيد من المدينة مرة أخرى، وازدهرت السمسمية، التي غنت أناشيد العودة والانتصار وتوارت الضمة، التي تتحدث عن العشق عادة.
في التسعينات وبعد تحول المدينة إلى منطقة تجارة حرة، وازدياد الربح المادي ووجود حالة من الرواج الاقتصادي في المدينة، تحولت ممارسة الفنون إلى مهنة حيث تكونت عدة فرق واشتهر عدة أفراد بأنهم من أهل الضمة مثل: إمبابي عبد الله، وأحمد عبد الهادي وأحمد نصر الشهير بـ"حمام" .
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. طبقات أشعار الدراويش
بعض المصادر الفنية لأغاني الضمة
من أهمها وأولها الموسيقى الكلاسيكية العربية، ما يعني التراث الذي غناه أهل القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وآشهرها أغنية مثل: "نوح الحمام والقمر على الغصون / والحلو جاي يتمتخر".
كذلك أدوار الدراويش والمتصوفة، حيث يشير الباحثون إلى أن كثيرًا من مرتادي الضمات كانوا من مرتادي حلقات الذكر، حيث يرتدي الصحبجية في الضمة الجلابيب البيضاء والعمامات الخضراء مثل الأغنية الشهيرة "إيه العمل يا أحمد يوم طلعت المشهد/ والأنبياء تشهد/ إنك رسول الله"٬ والتي يغنيها أهل بورسعيد والمصريون بشكل عام كأغنية تراثية شعبية دينية.
وهناك أغان لها علاقة ببيئة عمل البحر مثل أغنية إحنا البمبوطية "أي صناع المراكب"٬ كما ذكر أعلاه. ومن الأغاني البوسعيدية الشهيرة التي حولها حمزة نمرة إلى أغنية معاصرة أغنية يوما تعاتبنا، وهي أغنية من أصل التراث البورسعيدي.
من أهم الآلات المصاحبة لأغاني الضمة السمسمية أو الطنبورة، وهي آلة لها هيكل خشبي وعدد كبير من الأوتار مصنوعة كلها من النايلون
ويجدر الإشارة إلى أهم الآلات الموسيقية المصاحبة لأغاني الضمة البورسعيدية، وهي آلات بسيطة جدًا نظرًا لبساطة البيئة والناس الذين نشأت بينهم هذه الظاهرة الموسيقية: الطبلة والرق وملاعق الطعام والمثلث وزجاجات والصاجات، أما أهمها فهي آلة السمسمية أو الطنبورة، وهي آلة لها هيكل خشبي وعدد كبير من الأوتار مصنوعة كلها من النايلون. وتشبه إلى حد كبير الكنارة المصرية القديمة التي عُرفت في اللغة العربية بالقيثارة.
وقد اشتهر أهل بورسعيد بخفة الظل والمراوغة، أما الشخصية البورسعيدية التي تعبر عن أهل المدينة فهي شخصية "أبو العربي" وقد ارتبطت في أذهان المصريين بشخصية الرجل المراوغ الذي يحكي حكايات زائفة مدعيًا البطولة، أما في حقيقة الأمر فقد كانت بورسعيد مقسمة في بنائها الأول إلى حي الإفرنجة الذي يسكنه الأجانب من العاملين بالقناة، واليوم يسمى حي الشرق، وحي العرب، وسكانه أساسًا من فلسطين والشام، والمصريون كانوا في السابق لا يدخلون حي الإفرنج إلا للعمل كخدم.
أما إبان العدوان الثلاثي فقد كان أهل حي العرب ينفذون العمليات الفدائية ويهربون الأسلحة للمناضلين الذين بقوا في المدينة بعد التهجير، وأطلق على كل مناضل صفة "أبو العربي" ولكن السينما فيما بعد شوهت هذه الحقيقة وأضحى اسم أبو العربي مرتبطًا بالمراوغ أو بالتعبير العامي الدارج في مصر "الفشر"، خاصة بعد فيلم أبو العربي وصل.
اقرأ/ي أيضًا: