أيقظ فيروس كورونا بدهية نائمة، وجدد اكتشاف حقيقة لطالما رغب الإنسان في نسيان أنه اكتشفها يومًا. ذلك أن أعداءنا الأكثر خطرًا والأشد فتكًا، ليسوا بشرًا من لحم ودم، ليسوا جيوشًا مؤللة أو مجوقلة، وليسوا قوى اقتصادية عاتية، أو نظمًا سياسية غير موائمة، وبالطبع هم ليسوا أشباحًا أو كائنات فضائية.. إنهم أضأل حجمًا من ذلك بكثير، وربما هذا ما يدفع الكبرياء البشري إلى المثابرة على إقصائهم من ساحة الوعي.
يخوض الإنسان منذ بداية وجوده صراعًا أساسيًا ضد الفيروسات والجراثيم التي تملك من المخططات والخيارات وأدوات الصراع ما لا ينضب
في كتابه "أسلحة، جراثيم، وفولاذ" يقول جارد دايموند إن الإنسان يخوض، منذ بداية وجوده، صراعًا أساسيًا، استراتيجيًا ومفتوحًا، ضد الفيروسات والجراثيم والتي تملك من المخططات والخيارات وأدوات الصراع ما لا ينضب.
اقرأ/ي أيضًا: الطاعون كارثة العصر الأموي
ورغم أن الكتاب صدر قبل سنوات كثيرة من ظهور كورونا، إلا أنه كان من المؤكد بالنسبة لدايموند أن ما يبدو نصرًا بشريًا كاسحًا على أعدائه المجهريين هو مجرد جولة سوف تعقبها جولات أخرى كثيرة في حرب لا تزال بعيدة جدًا عن أن تُحسم.
غير أن الأكثر محورية في كتاب دايموند هو مقولة أن الفيروسات والجراثيم تشكل عوامل فاعلة، وإن كانت غالبًا غير مرئية، في صناعة التاريخ الإنساني.
يختبر الباحث أحمد العدوي هذه المقولة في دراسة على حقبة مهمة من تاريخنا العربي، وفي كتابه "الطاعون في العصر الأموي"، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018)، يذهب العدوي إلى أن الأمويين لم يُهزموا، فقط، بسبب سياساتهم الاجتماعية والاقتصادية، أو بسبب أخطاء خلفائهم، أو بسبب قوة بأس أبناء عمومتهم العباسيين وحسن تنظيمهم.. كل هذه عوامل كانت حاضرة ومؤثرة بلا شك، ولكن ثمة عامل قوي قلما يشير إليه المؤرخون، وربما يكون هذا العامل المجهول هو الأكثر حسمًا في الإطاحة بدولة بني أمية.
يقول العدوي: "إن أسباب انهيار البيوت الخشبية يمكن أن تكون كثيرة بدءًا من طبيعة التربة التي أقيمت عليها، ومرورًا بسرعة الرياح إلى طبيعة الطقس ونوع الخشب المستخدم في البناء... إلخ. ولكن ماذا عن العثور على آثار لبيض النمل الأبيض في حطام أخشاب المبنى؟!".
إنها صورة مجازية، فما هو المقابل الواقعي للنمل الأبيض في قصة الأمويين؟ إنها "يرسينيا بيستس"، ويجب أن لا ندع هذا الاسم اللطيف يخدعنا فهو ببساطة يشير إلى البكتريا المسببة للمرض الأكثر رعبًا وفتكًا عبر التاريخ: الطاعون.
عشرون موجة، عشرون فورة من الطاعون ضربت الدولة الأموية (بمعدل فورة كل أربع سنوات ونصف)، فقتلت، بين الآلاف الذين قتلتهم، خليفة (يزيد بن الوليد) وابن خليفة (عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز) وعددًا كبيرًا من الأمراء والقادة والولاة (منهم اثنان من دهاة العرب الأربعة: المغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه).
كان الطاعون يأتي على حواضر بأكملها فيحيلها إلى مدن أشباح، وكان المرء يقطع مسافات شاسعة من أراض خربة لا تجد من يحرثها، تتخللها قرى لا أثر فيها لحياة إنسانية
وفي الفورة التي سميت "طاعون ابن الزبير"، فإن الوباء فتك بالبصرة، وكان يقتل من أهلها في اليوم الواحد سبعين ألفًا، فما أن حل يوم الجمعة التالي، حتى كان عدد المصلين في جامعها الكبير مقتصرًا على سبعة رجال وامرأة واحدة. سأل إمام الجامع المصلين: "وأين الناس؟"، فأجابت المرأة: "في التراب".
اقرأ/ي أيضًا: "الموت الأسود" في أعمال كتاب ومؤرخي الشرق
سجل عدد السكان العرب في العراق والشام ومصر، وهم عماد الدولة الأموية وجيشها، تناقصًا حادًا، فضعفت الثغور وتجرأ الخصوم والمنافسون، ولقد لحق الخراب بالقرى والضياع والمزارع بسبب موت الفلاحين "مطعونين"، وهربِ الناجين منهم إلى البوادي ورؤوس الجبال، فانخفض الإنتاج الزراعي إلى حدوده الدنيا، كما تأذت الحرف والصنائع المدينية بعد موت كثير من أهلها وتشرد البقية منهم.. وهكذا تناقصت السلع واشتعلت الأسعار، فعم الغلاء مع الوباء، حتى أن التضخم وصل إلى مستويات قياسية في عهد عمر بن عبد العزيز، رغم أن الإدارة والتنظيم كانا في أوج ازدهارهما واستقرارهما في ذلك العهد.
تقدم أوراق شهود العيان وشهادات المؤرخين المعاصرين صورًا كابوسية مرعبة تبدو من تهويلات الخيال، فقد كان الطاعون يأتي على حواضر بأكملها فيحيلها إلى مدن أشباح، وكان المرء يقطع مسافات شاسعة من أراض خربة لا تجد من يحرثها، تتخللها قرى لا أثر فيها لحياة إنسانية. وكانت الجثث تتراكم في الشوارع والأزقة تنزف قيحًا وصديدًا وروائح مقززة، وكانت البيوت تتحول إلى مقابر جماعية لأسر بكاملها، وكان الأحياء يقضون أيامًا وليال في حمل الأموات إلى المقابر، وعندما يكثر المحمولون ويندر الحاملون فإن الباقين القلائل على قيد الحياة يفرون هائمين على وجوههم تاركين أجساد موتاهم إلى التراب وضواري البرية الجائعة..
فقد ابن سيرين ثلاثين من أبنائه وبقي له ولد واحد، وفقد أنس بن مالك ثمانين من نسله، أما نسل خالد بن الوليد فقد أبيد تمامًا بفعل طواعين متتالية، بل أن قبائل بأكملها فنيت ولم تخلف وراءها إلا الاسم والذكرى.
ولأن المسبب وطرائق عمله وانتقاله كانت مجهولة لأهل ذلك الزمان، فقد سادت الاجتهادات العشوائية والأفكار الموروثة اللا مجدية، وانتشرت الطلاسم والتعاويذ وطرائق العلاج البدائية والتي كانت تزيد الأمر سوءًا في كثير من الأحيان..
ولقد اختار العباسيون توقيتًا مثاليًا لزحفهم الكبير، إذ جعلوه بين طاعونين جارفين: طاعون غراب (سنة 743م) وطاعون مسلم بن قتيبة (سنة 748م). أما المعركة الأخيرة فكانت نتيجتها محسومة سلفًا. لقد قررتها "يرسينيا بيستس" دون سواها.
اقرأ/ي أيضًا:
ألبير كامو حول كورونا.. المعاناة عشوائية وذلك أبسط ما يمكن قوله
الإنفلونزا الإسبانية.. حكاية "الوباء الشاحب" الذي عالجه العالم بالنسيان