يرى زيغمونت باومان أن الفقراء والأقل دخلًا في كل أنحاء العالم يعانون من التجاهل والاستبعاد، والرغبة العالمية التي تتعاظم يوما بعد يوم، في إخراجهم جميعًا من دائرة الاهتمام، لأنهم باتوا بلا نفع ويشكلون عبئًا على النمو. ويقول في هذا المجال: "لأول مرة في التاريخ يجري حرمان قطاع كبير من البشرية من أي "وظيفة اجتماعية"... فلأول مرة في التاريخ ليس للفقراء نفع، ولا دور لهم ليلعبوه. عندما يختفون، فإن الإحصاءات، بما في ذلك المؤشرات الاقتصادية والأمنية، تتجه نحو الأفضل".
يبدو أن التقدم المتسارع في مراكز الدول الغنية، ينذر، عاجلًا، بتسيد خطاب عام يدعو لترك العالم الخارجي وشأنه والانصراف التام عن معالجة شؤونه وهمومه، إذا لم تكن المعالجة حروبًا وتدميرًا لكل مقومات هذه الدول
والفقراء الذين يشير إليهم باومان يمكن أن يكونوا شعوبًا بأكملها، فدول مثل ليتوانيا ولاتفيا تشهد نزفًا سكانيًا متعاظمًا منذ سقوط جدار برلين في أواخر القرن الماضي، ما دفع جيمس جالبرايث إلى إطلاق حكم مفزع حول مستقبل هذه البلدان حين أشار إلى أن هذا التدهور السكاني في هذه الدول سيحولها "في القريب العاجل إلى بلاد للمتقاعدين المسنين، الذين يتعيشون على تحويلات أبنائهم النقدية من الخارج حتى الموت".
اقرأ/ي أيضًا: الهويات الآفلة والعصبيات الناهضة
هذا الوصف ينطبق بصورة حاسمة على بلدان مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، مثلما ينطبق على دول مثل السلفادور وغواتيمالا في أمريكا اللاتينية، وينسحب طردًا على عدد كبير من دول أفريقيا وآسيا، بالقسوة نفسها وانعدام الأمل نفسه أيضًا.
يمكن القول، استنادًا إلى المعطيات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية الحديثة أن السلطات الحديثة التي تتحكم بمصائر شعوب الكرة الأرضية، ابتكرت وسيلة للمعاقبة تفوق في آثارها المدمرة تاريخ الاستغلال الطبقي الذي أشار إليه كارل ماركس وتتمثل تحديدًا في الامتناع عن الاستغلال. ما يدفع الفئات الأفقر والشعوب الأشد تهميشًا إلى العيش في انتظار أن يتم استغلالها، وهو انتظار لم يعد مجديًا في ما يبدو.
الهجرة من فوق ومن تحت
ثمة دول بأكملها اليوم تنفق من أموالها العامة والخاصة على تعليم أجيالها الشابة، لكنهم ما أن يتموا تعليمهم ويباشروا محاولة الدخول إلى سوق العمل، حتى يُواجهوا بمعضلة لا قبل لهم بحلها. غالبًا ما تفتقر الدول الثانوية في العالم إلى مجالات لتوظيف كل كفاءاتها، فيلجأ هؤلاء إلى الهجرة نحو الدول الغنية والمقتدرة، حيث يستطيعون العمل في مجالات تخصصهم. هذه الهجرة تشكل خسارة مضاعفة للدول التي يتحدر منها هؤلاء. فالإنفاق على تعليمهم وتحضيرهم للخوض في سوق العمل يقع على عاتق الدول الفقيرة والتي تندر فيها الفرص، في حين أن الدول الغنية، القادرة على الإنفاق أصلًا، تستفيد من خبرات هؤلاء من دون أن تكون قد أنفقت على تعليمهم وتحضيرهم. وعليه تنشأ هجرة أولى من الدول القابعة في الظل ليست أقل من نزيف حاد للكفاءات، يحول مع الوقت دون قدرة تلك الدول على الاستمرار قيد المعاصرة في كل المجالات، الثقافية والسياسية والاقتصادية على وجه الخصوص. فيما تعزز الدول الغنية ترسانتها من هذه الكفاءات من دون أن تساهم في إعدادهم على أي وجه من الوجوه. هجرة الجديرين من البلاد المعتمة، تعيد تشكيل هوية الاجتماع فيها على نحو خطير وغير مأمون العواقب. إذ سرعان ما يتحول هؤلاء الأبناء الذين هاجروا من تلك الدول إلى معيلين لأهلهم العجزة عبر تحويلاتهم المالية، ما يخرجهم خطوة بعد خطوة ويومًا بعد يوم من خانة المواطن صاحب الحقوق إلى خانة اللاجئين الذين يتعيشون على الإحسان والصدقة والمساعدة. ومثل هذه الهجرة تحصل أيضًا في الدول الغنية، حيث يهاجر أهل أريافها ومجاهلها إلى مدنها الكبرى حيث الجامعات العريقة والمؤسسات المعولمة التي تفيض بنورها الساطع على كل العالم من أقصاه إلى أقصاه. وعلى نحو مماثل، تتحول ولايات بأكملها وأقاليم شاسعة إلى أماكن غير معاينة وغير قابلة لتصدير شكواها وإسماع أنينها. بل سرعان ما تنتشر في هذه المدن شعارات تطالب بالكف عن إنفاق أموال العاملين بجهد فيها على هؤلاء المتبطلين الذين لا يجيدون أي عمل في المناطق القصية من البلاد. وهذه الحال تعم وتنتشر رغم متانة الروابط القومية والوطنية التي تتغنى بها سلطات الدول وحكوماتها. ولنا أن نتخيل في هذه الحال، المكانة المحتقرة التي تحل بها الدول البعيدة والشعوب الغريبة. ويبدو أن التقدم المتسارع في مراكز الدول الغنية، المتلألئة بأنوارها، ينذر، عاجلًا، بتسيد خطاب عام يدعو لترك العالم الخارجي وشأنه والانصراف التام عن معالجة شؤونه وهمومه، إذا لم تكن المعالجة حروبًا وتدميرًا لكل مقومات هذه الدول.
ثمة عمال، في الصين والهند والمكسيك ومصر والأردن، يصنعون على مدار الساعة سلعًا لا يستعملونها ولن يستعملونها طوال حياتهم، ليتم تصديرها إلى البلاد المتقدمة
هجرة الكفاءات ليست المعضلة الوحيدة التي تعاني منها الدول الفقيرة المعتمة، ثمة أيضًا هجرة الشباب الذين يشكلون فعليًا اليد العاملة غير الماهرة في الدول الغربية. وهؤلاء يفدون إلى مراكز العالم المضاءة ومدنه الكوزموبوليتية ليعملوا في المهن الأقل دخلًا، ويقيموا في البيوت والشقق التي كانت لتكون معدة للهدم بسبب تقادمها، لولا أن جماعات كبرى من الشباب ارتضت أن تسكن فيها وتدفع بدلات إيجار للأحياز التي يشغلونها. وهذه، في حقيقة الأمر، مساهمة الفقراء المالية في إطالة زمن احتضار هذه المباني، وإغراء مالكيها بتأجيل هدمها وإنشاء مبان جديدة مكانها. هؤلاء المهاجرون الذين يشكو منهم السياسيون المحافظون في كل دول العالم المتقدم، يساهمون في صنع الثروات الكبرى لهذه الدول. فإذا كنت تريد إقامة صناعة أو تجارة ناجحة ثمة وصفة لا تخطئ: إما تقيم مصنعك أو تجارتك في البلاد التي تكون أجور عمالها رخيصة إلى الحد الذي يمكنك من الربح إذا ما كانت منتجاتك ستصدّر إلى الدول المتقدمة، أو أن تغري العمال رخيصي الأجر بالقدوم إلى حيث تقع مصانعك ومزارعك. والحالان قائمان على نحو حاسم، فثمة عمال، في الصين والهند والمكسيك ومصر والأردن، يصنعون على مدار الساعة سلعًا لا يستعملونها ولن يستعملونها طوال حياتهم، ليتم تصديرها إلى البلاد المتقدمة. وثمة عمال آخرون يبنون قصورًا فخمة وحديثة لأغنياء العالم في المدن المتقدمة ويتقاضون أجورًا لا تفي بحاجتهم للعيش حياة كريمة في تلك البلاد. والحق إن تعريف الحياة الكريمة هو الحيلة التي تجعل هذا الاستغلال الفاقع ممكنًا، بل ويرغب من يتم استغلالهم بحصوله. فالمهاجر من المكسيك إلى لوس أنجلس يعتقد أن امتلاك سيارة وسقف يأويه ومياه جارية وتيار كهربائي مؤمن طوال الوقت هو تعريف الحياة الباذخة بامتياز. فيما يرى المقيم في لوس أنجلس منذ زمن أن هذا كله من البدائه التي فطر عليها، وأن الحياة الكريمة تفترض اقتناء سيارات فاخرة والإقامة في أحياء محروسة ومسوّرة، والاحتفاظ بمسافات شاسعة تفصله عن الطبقات الأدنى. وهذه الرغبة الأخيرة هي الحيلة الحديثة التي تجعل العمال المكسيكيين غير مرئيين للمقيم في لوس أنجلس، مثلما تجعل الليتوانيين والبولنديين والسوريين غير موجودين في مدارك الأوروبيين.
اقرأ/ي أيضًا: بيان البهجة المفتقدة
أقدار الدول الثانوية
ليست بولندا بلدًا صغيرًا بمقاييس الدول المستقلة. لكن لعنة الجغرافيا جعلتها تقع بين إمبراطوريتين كبيرتين. ما جعل بعض الأحداث التي وسمت تاريخها تفيض عن قدرتها على احتوائها. الاحتلالات في القرون الماضية، وأوشفيتز في منتصف القرن الماضي، والبابا يوحنا بولس الثاني ونقابة تضامن في نهاية القرن نفسه. كل هذه الأحداث والوقائع وسمت تاريخ العالم القريب والبعيد، ربما بسبب من كون الدول التي تأثرت بهذه الأحداث كانت وما تزال دولا كبرى. ولو قدر لنا أن نتخيل أن الضابط البولندي فيتولد بيلاكي الذي دبّر لنفسه مسألة اعتقاله في أوشفيتز، وأرسل من هناك تقاريره التي تؤكد وجود المحارق، كان ضابطًا روسيًا أو بريطانيًا أرسلته مخابرات إحدى هاتين الدولتين، لربما لم تلق تقاريره المصير الذي لقيته من التجاهل التام. لكن واقع أنه ضابط بولندي يتحدر من دولة ثانوية بين إمبراطوريتين، جعل كل الأحداث التي تقع في تلك البلاد مرهونة للتجاهل والغرق في الظلام. اليوم تستطيع بولندا أن تحتفي ببطلها، لكنه رغم إنجازاته الكبرى، سيبقى بطلًا محليًا، وستختلف على تبنيه أحزاب محلية، تنظر إلى مستقبل البلد بعين ضيقة كما هي حال كل الأحزاب السياسية في البلاد الثانوية التي تنتشر في أرجاء القارات.
وعلى نحو مماثل، لو أن اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين في أوائل القرن الماضي تم تهجيرهم إلى باريس أو اسطنبول يومذاك، لكانت مصائر اليهود اختلفت كثيرًا عما نراه حاليًا. لعنة الجغرافيا تلعب لعبتها دائمًا في غير صالح الشعوب الثانوية.
لبنان الذي يشكل جزءًا أساسيًا من بلاد الشام التي تضم فلسطين وسوريا والأردن، شهد أحداثًا أكبر منه أيضًا. واستمر منذورًا لتحقيق أحلام طغاة إقليميين على مدى العقود الماضية. اليوم يحسب شطر كبير من أهل الحل والربط في لبنان أنهم قادرون على هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية كلها على حد سواء، ببضع عشرات الآلاف من المقاتلين وترسانة صاروخية. هم مقتنعون تمامًا بأنهم يؤدون دورًا عالميًا. لكن البلد ثانوي ومهمل إلى حد فظيع، ولا يتجاوز دوره في المعادلات الدولية والإقليمية دور فئران التجارب. وعليه يجوع اللبنانيون، لكن خطاب الانتصار يصف الجوع صمودًا، وتسرق مدخراتهم في المصارف، وتعزلهم دول العالم دبلوماسيًا، وتتلاشى بنية البلد التحتية، لكن خطاب الانتصار لا يكف عن الفخر بواقع أن العالم يحاصره. فلو لم يكن قويًا إلى الحد الذي يخيف العالم كله لما لجأ العالم إلى محاصرته. والحق إن ما يعجز أصحاب الخطاب المنتصر عن تبينه في هذا السياق هو الفارق بين الحصار والاستبعاد. دول العالم المضاء، بعضها انعزالي إلى الحد الذي لا يريد أن يقلق على ما يجري خارج حدوده، وهذا ينطبق على الدول الإسكندنافية وبعض أوروبا المتقدمة، وبعضها الآخر يبدي اهتمامًا بما يجري في أقاصي الكرة الأرضية، كحال الدول الاستعمارية السابقة والولايات المتحدة الأمريكية، لأنها أولًا تملك معرفة ما بتلك البلاد، ولأنها ثانيًا ما زالت تربطها بهذه المناطق علاقات اقتصادية، تتلاشى قوتها ومتانتها يوما بعد يوم. هذه الدول ومنذ سنوات أصبحت تميل إلى التخلي عن همومها الخارجية هذه، ولم تعد ترى في تلك البلاد القصية والنائية ما يغريها لأي نوع من الاستثمار. جامعات تلك البلاد النائية باتت متخلفة، ولا تُخرّج شبانًا قادرين على الدخول إلى سوق العمل المتطلب، وأوضاعها الصحية متردية إلى الحد الذي تتوجس معه هذه الدول من استقبال لاجئيها ومهاجريها لئلا يكلفونها ما لا ترغب في إنفاقه على رعايتهم صحيًا. والحال، ينمو التجاهل والاستبعاد وإشاحة النظر عن تلك البلاد كفطر سام في العواصم الكبرى. ولن يلبث بعد وقت قصير أن يخرج هذه البلاد وأهلها من مرتبة الكائنات البشرية إلى مرتبة الأعشاب الضارة. الحداثة في حقيقة أمرها ليست معنية بالمحافظة على الطبيعة العذراء. إنها تسعى دائمًا إلى اقتلاع ما لا يصلح للاستعمال والاستفادة منه، أكان المقتلع شجرة أم حيوانًا شرسًا أم بشرًا لا لزوم لهم.
دول شرق أوروبا مرحبة بالغريب، وتطمح لإقامة حوار وعلاقات ودية مع الدول المتقدمة، منذ استقلالها عن الهيمنة السوفييتية، بينما دول الشرق الأوسط في معظمها تتوجس من الآخر، ولا ترّحب به
هناك فارق جوهري بين دول شرق أوروبا ودول الشرق الأوسط في التعامل مع دول الغرب المتقدمة. وهذا الفارق قد يكون موحيًا ومؤثرًا في المقبل من الأيام. ففي حين كانت دول شرق أوروبا مرحبة بالغريب والآخر، وتطمح لإقامة حوار وعلاقات ودية مع الدول المتقدمة، منذ استقلالها عن الهيمنة السوفييتية، كانت دول الشرق الأوسط في معظمها تتوجس من الآخر، ولا ترّحب به، بل وذهبت حركات سياسية – عسكرية أصولية في ثمانينات القرن الماضي في لبنان إلى اعتبار خطف الأجانب المدنيين عملًا نضاليًا يجب أن تكافأ عليه، ورغم عبثية هذا الضرب من النشاط السياسي- العسكري، وخطورته، إلا أن الحركات السياسية- العسكرية المتأخرة، في العراق وسوريا خصوصًا، عادت لاعتماد هذا الأسلوب ونشطت في خطف الغربيين وذبحهم أمام الكاميرات. كما لو أنها تريد أن تعلن المناطق التي تنشط فيها غابة يتسيد فيها أسود متوحشة وعلى كل من يريد دخولها أن يتوقع الموت ذبحًا.
اقرأ/ي أيضًا: الفقراء الفائضون عن حاجة العالم
على نحو ما حولت هذه الحركات السياسية – العسكرية دول منطقة الشرق الأوسط إلى غابة متوحشة، فيما لم ينجح اللطف والكياسة اللذين أبدتهما دول شرق أوروبا تجاه الآخر في تمتين انتمائها إلى العالم المتقدم، لكنهما جعلاها تبدو كما لو أنها حدائق آمنة لا يتعرض فيها الزائر إلى عضة أسد.
كلاب الحراسة الفائضة عن الحاجة
يقول جيمس جالبرايث "إن قدر البلدان الصغيرة (الثانوية) أن تكون مثابة نماذج أصلية تُصنع على أساسها نماذج أخرى، وساحات قتال، وموضع أصل الأساطير".
إذا شئت أن أترجم هذا الحكم الذي يطلقه جالبرايث إلى مداركي، يمكنني القول: إن البلاد الثانوية منذورة لأن تقوم بمهمة كلاب الحراسة. مهمتها تقضي، أولًا وآخرًا، بالدفاع عن المنزل أو الحدود نيابة عن صاحب المنزل وحامي الحدود، ولو دفعت حياتها ثمنًا لذلك. في لغة الجيوش، هي كمائن متقدمة تناوش المعتدين والمجتاحين على الحدود قبل أن يصلوا إلى قلعة الأسياد. وحين لا يكون ثمة حاجة للموت في سبيل صاحب المنزل وحامي الحدود، تُدلل هذه البلاد وتنعم بالراحة والهدوء وبعض المتعة. حرس الحدود البولنديين يقفلون حدود الدولة في وجه المهاجرين إلى أوروبا. هؤلاء لن يمكثوا في بولندا، فوجهتهم الفعلية هي قلعة السيد، في برلين أو روما أو باريس. لكن مهمة منعهم من الدخول تقع على عاتق البولنديين. البولنديون أنفسهم منذورون للهجرة إلى قلب أوروبا. ومن هناك، يساهمون في بقاء بولندا حية، بتحويلاتهم المالية، ومشاريعهم واستثماراتهم العائدة إليها.
لبنان الذي كان يؤدي دورًا مشابها في العقود الماضية، كان العتبة التي تقع أوروبا خلفها تمامًا. من الجهة الثانية من الحدود كانت الممالك تقام وتزال بالعنف والسيف من دون توقف. وكان لبنان الثانوي جدًا والصغير جدًا، يقبع على قائمة الانتظار. في الأثناء، كان البلد يشبه مفرزة حدودية تفصل أوروبا عن الصحراء، وفيها نشأت تجارات وازدهرت صناعات ترفيه وخدمات، في وقت مستقطع بين تخل أوروبي عن المنطقة، واجتياح من الجيران. اليوم تبدو حدود البلد الصغير مقفلة من جهة البحر، نحو الغرب وبعض الشرق أيضًا، وما زالت حدوده من الجهة الثانية مفتوحة وسائبة. ما جعل كلاب الحراسة الذين كانوا يقيمون في هذه المساحة الصغيرة مجرد كلاب تائهة، تقتات وتعيش على لحم بعضها البعض.
حرس الحدود البولنديين يقفلون الحدود في وجه المهاجرين إلى أوروبا. هؤلاء لن يمكثوا في بولندا، فوجهتهم الفعلية هي قلعة السيد. لكن مهمة منعهم تقع على عاتق البولنديين
يمكن لأي مراقب أن يسرد حوادث لا تحصى عن مقاومين للاحتلال الإسرائيلي قتلهم المقاومون الجدد للاحتلال نفسه في ما بعد، ويمكن لأي مطلع على تاريخ البلد أن يلاحظ أن نخبه معرضة للتهجير والنفي كل عقد أو أقل. لتنشأ في أماكنها نخب جديدة وتؤدي أدوارًا أقل شأنًا من النخب السابقة. هكذا يضيق البلد بأهله، لأن الحوادث التي تحصل فيه تفيض عن قدرته على الاحتمال.
اقرأ/ي أيضًا: سلطة الدولة المتآكلة وانحسار اليقين
هل كان مصير فيتولد بيلاكي الذي ناهض الألمان وقتله أعداؤهم فريدًا في بابه؟ كل هذه البلاد الثانوية تزخر بأمثاله. ليسوا جميعًا على قدر من البطولة التي تمتع بها هذا الرجل الاستثنائي، لكنهم جميعًا تعرضوا للمصير نفسه: مصير الذي تحيط به الأسود من كل جانب، ولا يملك في مواجهتهم إلا فما واحدًا بأسنان كليلة، وحين يقبل على الموت فإنه يتلقاه مطعونًا من الخلف.
اقرأ/ي أيضًا: