"أنا أيدي الصغيرات تُفتّش في الممراتِ لتعثرَ عن طفولتها التي يغتالُها الجند".
- مقطَع من أغنية لحسين الأكرف
أكثر من 447 طفلًا غزيًا استشهدوا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وربّما يعتقد البعض بأنّ أطفال غزة ليسوا كأطفال العالَم، وربّما يظنون بأنّهم لمّا كانوا أطفال المدينة الأسطورة، فقد كانَ حتمًا عليهم أن يكونوا أساطير، وأن تكون أجسادهم الهشة من فولاذ، ورؤوسهم من حديد، وقلوبهم من نار.
لكنّ أطفال غزة لم يكونوا يومًا أطفالًا لهم أجساد فولاذية أو رؤوس حديدية أو قلوب نارية، أطفالها عاديين جدًا، بأجساد عادية ورؤوس عادية وقلوب عادية، تستهدفهم آلة القتل الإسرائيلية بالصواريخ والبراميل المتفجرّة والقنابل المحرمة دوليًا، فيستشهدون ويتركون أسئلتهم معلّقة داخل رؤوسهم دون أن يجدوا من يجيبهم عليها.
لا أعرف الأطفال الذين استشهدوا منذ بداية الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، لا أعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم، لكنني أعرفُ عنهم حقيقة واحدة، هيَ أنّهم يُشبهون كلّ أطفال العالَم في البراءة والأحلام والأسئلة، وأعرفُ أنّ أسئلتهم الطفولية، سواء أكانوا أحياءً أم شهداء، هيَ أسئلة مختلفة عن أسئلة أطفال العالَم، أولئك الآخرين الذين يمتلكوا رفاهية أن يسألوا آبائهم وأمهاتهم أسئلة عادية ومحرجة: "يا ماما كيف أنا جيت على هاي الحياة؟"، "يا بابا شو يعني الله؟".
في مشاهد عديدة، ظهرَ أطفال غزة وهم يسألون أسئلتهم الطفولية الخاصة، تلكَ التي يبتدعونها من واقع القتل والإبادة الجماعية الذي بات يُحيط بهم من كلّ الجهات
في الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، كانت هناك العديد من المشاهد والصور التي ظهرَ فيها أطفال غزة وهم يسألون أسئلتهم الطفولية الخاصة، تلكَ التي يبتدعونها من واقع القتل والإبادة الجماعية الذي بات يُحيط بهم من كلّ الجهات.
هناكَ طفلٌ يظهر في صورة وهو جالسٌ على كومة حجارة لمنزلٍ هدمته آلة القتل الإسرائيلية، وأمامه جثة لقطة مقتولة، يبدو الطفل في الصورة مشدوهًا وحزينًا لما يرى، يَظهر في الصورة وكأنّ داخله ألفُ بكاء مكبوت، وكأنّ جثة القطة التي أمامه توقظ في داخله ألفَ سؤالٍ عن الحياة والموت والقدَر المجاني، وتجعله يُراقبها بحرقة ويسأل نفسه: بأيْ ذنبٍ قتلتِ؟
وهذا مشهد لطفل آخر يظهر في فيديو وهو يصف كيفية استشهاد أخاه الصغير، يظهر الطفِل يبكي بشكل هستيري وهو يحلف بأنّ أخاه كان حيًا عندما كانا معًا تحت أنقاض بيتهما قبل أن ينتشلوهما من تحته، يقولُ الطفل بأنّه سمع أخاه يُنادي عليه، ويحكي ببراءة أنّ أخاه ماتَ بسبب التراب والحجارة التي دخلَت إلى فمه، ثمّ يطلب أن يُقبّل أخاه الشهيد "بدي أبوسه"، وعندما يرفض والده طلبه، يعود ويدخل في نوبة بكاء هستيري استنكاري، ويكون فيه كمن يُحدّث نفسه ويعاتبها ويسألها: طوال حياتي وأنا أمثّل بالنسبة لأخي الصغير بَطل خارق أو سوبرمان، طوال حياتي وأنا أمسك بيده بينما نسير معًا في الطريق، طوال حياتي وأنا أحميه، فلماذا فشلتُ هذه المرة في حمايته، لماذا تركته يختنق؟!
وذلك طفل غزيّ ثالث يُحدّث عنه أحد أقربائه ويقول إنّه لكثرة ما شاهد من صور الشهداء والجرحى والقصف والدمار والإبادة تجرّأ وسأل: "عمو ليش الله بحبناش؟"، ويكمِل قريبه بأنّه وقفَ عاجزًا أمام سؤاله المعقد هذا.
وهذه طفلة رابعة تَظهر في فيديو وهي تُحاولْ تهدئة أمها التي دخلَت في حالة عصبية هستيرية لاستشهاد أولادها (إخوة الطفلة)، تَظهر الأمّ تصرخ وتؤكّد بأنّ أولادها ماتوا بدون أن يأكلوا "ماتوا بدون ما ياكلوا"، وتَظهر طفلتها وهي تلحق بها وتُمسِك بها وتقول لها: "ماما، خلَص، خلَص"، تبدو الطفلة هنا وكأنّها تستحضر في رأسها أسئلة الأمومة الكبرى اتجاه أمها، وكأنّها ترغب في احتضانها للتخفيف من وجعها، وتختصر في ملامحها وتصرّفاتها سؤال تبديل الأدوار: لماذا يا أمي لا أكون أنا أمّكِ؟!
يقفُ العالَم الصامت والمتواطئ والمشارك في جريمة الإبادة الجماعية التي تَحدث في غزة اليوم، والتي أكثر ضحاياها من النساء والأطفال، يُشاهِد الأطفال الشهداء يخرجون أشلاءً ومتفحمين من تحت أنقاض منازلهم، ويُشاهد الأحياء منهم يغيبون في عوالمهم الخاصة التي يسألون أنفسهم فيها عشرات ومئات وربّما آلاف وملايين الأسئلة، لتُصبح أسئلتهم بمثابة إشارات استفهام مفتوحة أمام عالَم سافِل يصرّ على الانحياز لقاتلهم مرارًا وتكرارًا، ويتركهم دون إجابة!