لمدة 15 يومًا بدءًا من السابع من آب/ أغسطس وحتى الثاني والعشرين، يحتفل المصريون برحلة العائلة المقدّسة ولجوئها لمصر للاختباء من الملك هيرودس، الذي سعى لقتل السيد المسيح في بيت لحم، قبل أن تأتي رسالة إلى يوسف النجار تنبهه بوجود خطر يحيط بمريم وابنها، تقول: "قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك لأن هيرودس مُزمع أن يطلب الصبي ليهلكه".
نسج المصريون علاقة خاصة مع العذراء مريم وككل ظاهرة دينية تقترب منهم حولوها إلى طقس شعبي له تقاليد وعادات مختلفة
كانت مصر بالنسبة إلى العائلة المقدسة، منذ اليوم الأول، ملاذًا آمنًا، حين يقرر أحدهم أن ينهي حياة المسيح ومن هنا بدأت علاقة خاصة بين المصريين والسيدة العذراء، فقد استقبلوها، وأمنوها على نفسها وابنها الرضيع حين وصلت إلى الجبل الغربي بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث بقيت فيه وباركته، ومن هناك أيضًا، بدأت رحلة العودة إلى فلسطين.
مغارة في حضن الجبل الغربي احتوت المسيح وأمه، وأصبحت البقعة الأقدس في دير السيدة العذراء بدرنكة بأسيوط، وتحوّلت مع الزمن إلى دير للخلوات الروحية، والصلوات، والدعاء.. ليس فقط بين المسيحيين، إنما للمسلمين أيضًا، فمن تطلب ولدًا ومن يطلب فكّ ضيق يذهب إلى هناك، فالله منح المكان بركة العائلة المقدّسة، وبالتأكيد يسمع من يستعين بها على قضاء حاجاته.
نسج المصريون علاقة خاصة مع العذراء، وككل ظاهرة دينية تقترب منهم حولوها إلى طقس شعبي، فكثيرًا ما تجد مصرية مسلمة تعلق سلسلة تحمل صورة مريم بصدرها، وكثيرًا ما تسمّي عائلات مسلمة بناتها بـ"مريم"، وكثيرًا ما تذهب إلى ديرها، ومناطق تجليها على العالم، لتطلب البركة. وهذه بعض تجليات العذراء في مصر:
اقرأ/ي أيضًا: موالد القديسين في مصر.. بهجة البسطاء والمريدين
المولد والكنائس والشجرة وعبد الناصر!
في ضاحية المطرية، التي تسمّى أرض الفراعنة لما تحتويه بطنها من آثار، يحتفل المصريون سنويًا بمولد العذراء مريم، كما يقيمون مولدًا للحسين وآخر للسيدة زينب.. وإلى جانب مولد العذراء يقام مولد سيدي المطراوي.. الذي كان شيخًا مسلمًا.. فكما تضم المنطقة آثارًا فرعونية، هناك آثار إسلامية وقبطية، أبرزها شجرة مريم.
ومولد العذراء يقع بالمطرية، احتفالًا بصعود السيدة العذراء في 16 مسرى (وفقًا للحساب القبطي)، الموافق النصف الثاني من شهر آب/ أغسطس.
وتستمد شجرة مريم أهميتها لدى المسلمين والمسيحيين أيضًا، من كون السيدة مريم استظلّت بظلها خلال هروبها إلى مصر بصحبة ابنها المسيح، ويوسف النجار، فتحولت إلى مزار، مخصّص للراغبات في الزواج، أو الإنجاب، تبرّكًا بقصة مريم، التي منحها الله عطيته دون أن يسبّب الأسباب التي نعرفها، ويأكلن من شجرة الجميز المجاورة لها تبرّكًا أيضًا.
وورد في مخطوطات المؤرخ القبطي، أبو المكارم سعد الله جرجس، عن كنائس وأديرة مصر، أن مريم استظلت بالشجرة وأكلت من ثمارها وأقامت تحتها فترة وشربت من مياه بئر قريب، قبل أن تنطلق إلى دير درنكة وجبل الطير بصعيد مصر، ويؤمن كثير من سكان منطقة المطرية، على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، بمعجزات الشجرة، فيأتون إليها للتبرك والاستشفاء، ويتركون قنديلًا مضاء طوال الوقت، وفي يوم من أيام السنة، يغتسلون بمياه البئر، لعلاج العيوب الخلقية!
في منطقة مسطرد كنيسة أخرى، من الأساطير الشعبية، التي تدفع المسلمين إلى زيارتها، أن أيقونة أم النور هناك لديها قدرة على إعادة البصر، ومن لا يعود له بصره، فهي كفيلة بإنارة الطريق له، ويُقال إن كنيسة العذراء في مسطرد بُنيَت بدلًا من بيت أقامت فيه العائلة المقدسة بمصر.
في منطقة الزيتون، بنيت كنيسة في الستينيات بأمر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويقال إن المكان الذي أقيمت به شهد تجلي العذراء عام 1968 بعد النكسة، في محاولة لدعم المصريين نفسيًا، استغل ناصر تلك الأسطورة وأمر ببناء الكنيسة، ويقول إنه لحق بها ورأى تجليها، حتى أصبحت الكنيسة مكانًا للتبرك بالعذراء، فالبعض يروي أنه رآها بعينه وهذا يكفي ليصدق إنها معجزة، وهذا أمر يستحق البركة لكن التجلّي له قصص أخرى أيضًا.
مولد العذراء يقع بالمطرية، احتفالًا بصعود السيدة العذراء في 16 مسرى وفقًا للحساب القبطي، الموافق النصف الثاني من شهر أغسطس
اقرأ/ي أيضًا: الموالد.. بين الدولة والسلفيين والمثقفين
مريم.. التجلي الأخير
بعد نكسة 1967 بقليل، كان لا بد أن يجد المصريون من يدعمهم نفسيًا أمام الهزيمة، فمن غيرها؟.. لاحظ الخفير المكلف بحراسة جراج مؤسسة النقل العام بالزيتون، أنه رأى جسمًا نورانيًا فوق قبة كنيسة العذراء بشارع طومان باي. لم يعتد ذلك البريق كل يوم، فأخذ يصرخ: "نور فوق القبة"، ونادى زملاءه ليجدوا فتاة ترتدي الأبيض، وتشعّ نورًا. ظنوا أنها مقبلة على الانتحار، فأبلغوا الشرطة، زاد نور الفتاة، وحلق سرب حمام أبيض حولها، وكسروا جميع مصابيح المنطقة خوفًا من أن تكون خدعة فازدادت نورًا وبهاء وأحاطت بها هالة نور ليكتشفوا الحقيقة.. إنها العذراء.
كان هذا الظهور الأول للعذراء في مصر، وفقًا لعدة روايات، وادّعى البعض أنها ظهرت مرة أخرى يوم السبت، 21 آب/ أغسطس عام 1982، فوق كنيسة العذراء بإدفو في أسوان، وتجلّت مساء الثلاثاء الخامس والعشرين من آذار/ مارس 1986 فوق قبة كنيسة القديسة دميانة بشبرا، وتوافد عليها كثيرون طلبًا للشفاء، واحتفظ بعضهم بالزيت، الذي تقاطر من تماثيلها وأيقوناتها، وأصدرت الكنيسة المصرية بيانًا أكّدت فيه أن "آباء وكهنة ورهبانًا رأوها".
تظهر العذراء طيفًا يتهادى بهدوء ويشع نورًا، كما جرى لساعات عام 1988 على الجبل الغربي في أسيوط، الذي استقبلها لأول مرة بصحبة رضيعها ويوسف النجار، وفي الخميس، الموافق الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2009، كان التجلي الأخير للعذراء في مصر، حيث تجمهر عشرات الآلاف لرؤيتها فوق قبة كنيسة الملاك ميخائيل بالوراق، وارتفع التهليل وأصوات الصلوات، وتم توثيق التجلي بالموبايل، وكان حشدًا لم يكن له مثيل ساهمت التكنولوجيا في الترويج له.
من شدة المفاجأة والفرحة، ردّد المصريون هتافات من نوعية "بص شوف العدرا بتعمل ايه"، و"العدرا منورة"، و"العمود منور ليه عشان العدرا واقفة عليه"، و"يلا اظهري، طلي بنورك يلا".. وابتدعوا بعض الهتافات ذات المرجعية القبطية أيضًا: "نورك بان.. على الصلبان"، و"وعشانك يا رومانى.. العدرا تظهر تاني"، و"عشانك يا مار مينا..العدرا تظهر لينا". حوّل المصريون هتافاتهم خلال تشجيع فرق كرة القدم، أو الدعاية لمرشح لمجلس النواب، إلى هتافات من أجل العذراء. وصفها البعض بالمبتذلة، لكن الحقيقة إنها من شدة الحب، ولم يقصدوا الإهانة أبدًا.
كيف يتبرك المسلمون بالسيدة العذراء في الأديرة؟
خلال ليالي الصوم، يسعى المصريون إلى أيقونات العذراء في كل مكان، في دير درنكة بالصعيد، الذي شهد رحلتها، وفي كنيسة الوراق، التي شهدت تجليها، ويسارعون إلى حضور مولدها أيضًا. يشعلون الشموع أسفل صورتها، ويطلبون المدد، والعون على قضاء حوائج الدنيا.
الموالد أكبر دليل على عشق المصريين للسيدة العذراء فهم لا يقيمونها عبثًا، لأنها ظاهرة فرعونية، كانت تقام احتفالاً بآلهة مصر القديمة
كانت السيدة فاطمة قد خرجت من كنيسة العذراء بالوراق، وعن أسباب تبركها بالعذراء تقول: "جئت ملبية رغبة والدتي، أوصتني بزيارة الدير والدعاء وإشعال الشموع ككثير من المسلمين، فالعذراء ليست مسيحية، إنما بعثت للبشر كلهم".
والموالد، في حد ذاتها، أكبر دليل على عشق المصريين للسيدة العذراء فهم لا يقيمونها عبثًا، لأنها ظاهرة فرعونية، كانت تقام احتفالاً بآلهة مصر القديمة، ويتم خلالها تقديم القرابين والنذور والأضاحي والتضرع إليها، واستمرت الظاهرة رغم اختلاف المعتقد، وفي كل منطقة بها كنيسة أو دير لا يزال يقام مولد يحمل اسمها.
ومن بين التفخيم الذي يلاحق العذراء على ألسنة المسلمين، ما ورد على لسان سيدة تدعى أم علي. اعتادت حضور موالد العذراء، وتقول لـ"لترا صوت" إن "جمعتهما مواقف كثيرة". وتضيف: "زمان كانت تقول لي أمي لما تضيق بنا الدنيا، قولي (يا أم النور فكي ضيقتي علطول)، وفعلاً اختبرنا تلك الكلمات في بيتنا ونجحت، وكانت ستنا العذراء تفك الضيق فورًا. قبل فترة، طلبت من ستنا مريم حلّ أزمة مالية، ووعدتها بالصيام لها إذا لم أحتج لأحد لفك الأزمة، وبالفعل ساندتني، وها أنا أصوم صيام العذراء من بداية أغسطس".
لم يكن ذلك للبسطاء فقط، فالتبرك بالعذراء ليس حكرًا على مستوى عقلي أو مادي معيّن، ففي فيلم "لعب وجد وحب" بطولة عمرو دياب ويسرا وعمر الشريف، أدّت الفنانة الكبيرة مشهدًا اعتبر من أهم مشاهد السينما المصرية، حين وقفت بين يدي أيقونة العذراء بأحد الأديرة، وقالت لها: "أنا عائشة فاكراني يا عدرا، من يوم ما سبت إسكندرية وجيت للدنيا الواسعة، وأنا على بابك إنت والسيدة زينب وكل أولياء ربنا وحبايبه، أنا تعبانة يا أم المسيح، عمري ما كفرت ولا اعترضت، مستحملة وصابرة، بحب الناس كلها، حتى اللى بيكرهوني، أنا مش ساذجة لأ، أنا فاهمة كل حاجة، بس مش قادرة أغير، تعبت، قتلتنى الوحدة يا ناصرة، ومبقتش فاهمة حاجة، إشمعنا أنا اللي فرحي معدوم وبختي قليل، عاوزة أشوف ضنايا، أتأكد إنها عايشة، ساعدينا بحق طلعتك ع الغلابة دول، أنا مستنياكي، مستنية الأمارة".
اقرأ/ي أيضًا: