لم تؤُل أحوال الفلسطينيين بعد بناء جهاز السلطة الفلسطينية مطلع تسعينيات القرن المنصرم على أنقاض انتفاضة الحجارة 1987، سواء المقيمين في أرضهم المُحتلة بمختلف تصنيفاتها، أو المشتتين في مهاجرهم القريبة والبعيدة، إلى مستوى أحوال المواطن السنغافوري المتنعم بما لبلاده من باع تجاري وأهمية على خريطة الأسهم العالمية، علاوة عن وصفها واحة استثمارية، من تلك التي تفتح أبوابها للنمور الآسيوية كما لأسواق وعملات محور البريكس وكذلك لواشنطن ولندن وباريس وطوكيو، الكل مرحب به في واحة السلام الاقتصادي.
ذلك ما جال في بال الآباء المؤسسين "للصلح": بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الدولة، بإسحاق رابين وشمعون بيريز وإيهود باراك، كما أيضًا شلوميت ألوني وأوري أفنيري، وكل أصحاب الرؤى "المتفائلة" آنذاك من هكذا شكل للحل للصراع العربي الصهيوني، الذي دخل حقبة أن يكون فلسطينيًا إسرائيليًا خالصًا في وعي ومواقف خندق الصلح منذ كامب ديفيد.
حال السلطة الفلسطينية حال المتلهي المتعامي عن حجم كارثية تصرفاته، بل وتكلفة وجوده أساسًا
السابق بشأن الحلم السنغافوري، وجعل "العملة" والدولار يجريان في يد الفلسطينيين، كان من ضمن ما وعد به الشعب الفلسطيني، على الأقل في الضفة الغربية وغزة، أي أقل من نصفه، على لسان قيادة منظمة التحرير، بشكل أساسي تصريحات وتلميحات ياسر عرفات في تلك الفترة، ناهيك عن الجوقة العازفة على ذات إيقاعه مثل كبير المفاوضين الذي بقي في منصبه حتى اليوم، أو رجل الملاعب الذي شهدت حقبة إدارته لجهاز الأمن الوقائي أسوأ الصفقات بين هذا الجهاز والشاباك الإسرائيلي ضد المقاومة، قبل أن ينتقل العقيد إلى الساحة الأوليمبية، كل التصريحات والوعود دارت حول أن لدى وصول القيادة أرض الوطن، لن يتمكن" اليهود" من الصمود لحظات أمام عزيمتها، وأن على الفلسطيني أن يودع الفقر والعمل في السوق الإسرائيلي وفي بناء المستوطنات بمجرد وصول القيادة وتشكيل السلطة على أرض السيطرة والتحكم، هذا كان جزءًا مما وعد الفلسطيني به، وليس كل شيء للملاحظة!
في الأسابيع الأخيرة، كثر التداخل في الشأن الفلسطيني بين الاجتماعي والسياسي، بين الوطني والمعيشي، في ظل تصاعد وتيرة المواجهة مع الاحتلال، ومواجهة الناس للسلطة في مطالبهم المعيشية العادلة، ومن غير المفاجئ أن يكون هذا هو الحال، أن يكون المسؤول عن ابتكار هذا الخلط والتداخل وتغليب الخطاب المحقون -الشعبوي الفارغ من أي قيمة عملية- على مصائب الناس النقابية المعيشية، هذا على الأقل ما يمكن وصف تعنت السلطة الفلسطينية -أمام مطالب كادر الجهاز التعليمي في المدارس الفلسطينية- به.
ما تمارسه السلطة الفلسطينية من تأثير على حياة الفلسطيني بالمجمل، يصب في خانة السلب والإكراه والتعطيل والإرجاع إلى الوراء، هذا ليس بجديد!
الفلسطيني يضرب عن العمل والمعلم يعلق الدوام جزئيًا وكليًا، والتلاميذ في المدارس يخسرون وقتًا وعلمًا وحلمًا، بينما حال السلطة الفلسطينية حال المتلهي المتعامي عن حجم كارثية تصرفاته، بل وتكلفة وجوده أساسًا، فالفلسطيني أمام العالم، محسوب عليه وجود سلطة ومشروع "دولة" يظلله، بينما على أرض الواقع فهو خاسر في هذه العلاقة المحرمة مع السلطة، وطنيًا، بالتراخي في شأنه الحقوقي الوطني العام والخاص، واجتماعيًا في استعباده وفق شروط عمل ومعدلات أجر لم تكن يومًا في حسبانه.
منذ بناء السلطة حتى اليوم، لم يتغير حال الأجور بما هو شاسع، عشية إعلان تأسيس السلطة كان يكفي الفلسطيني أن يعمل خمسة أيام لدى أي رب عمل إسرائيلي في مشاريع البناء لقاء 100-200$ آنذاك، أي عامي 1993/1994، بينما ما منحته السلطة لمنتسبي جهازها الإداري وأجهزتها الأمنية، كالعاملين في قطاعي الصحة والتعليم، لم يكن يتجاوز هذا المبلغ بكثير، ولكن شهريًا، وهذا ما لم يتغير كثيرًا مع مرور الوقت حتى اللحظة.
لا امتلأ الجيب، ولا انستر العيب، ولم يكشف ما في الغيب بعد أمام الفلسطيني، فما تمارسه السلطة الفلسطينية من تأثير على حياة الفلسطيني بالمجمل، أي بمختلف شؤونها وليس الوطنية فقط، يصب في خانة السلب والإكراه والتعطيل والإرجاع إلى الوراء. أموال التمويل الأجنبي تنهب، سواء من السلطة أو أقطاب استجلاب التمويل، السلطة تتورط أكثر مع الأنظمة العربية البائدة، تمتن علاقاتها بأعداء التاريخ جيدًا، لكن من يعلم، قد تبيد السلطة قبل أن يبيد أساتذتها في الدكتاتورية والتخلف، وربما يكون لخديعة العصا وسنغافورة التي تعرض لها الفلسطيني وسياسة التجويع الممنهج المتبعة من جهة السلطة والاحتلال معًا، بالإضافة إلى انكشاف كل أحابيل السلطة الخطابية أمام الجمهور الفلسطيني، أثر في تحفيز العمل الانتفاضي في فلسطين، خاصة أن كل هذه الظروف تتراكم والفلسطيني يناور على تلك الجبهات كما على جبهة مواجهة الاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: