"تحذير من أجل كورونا: إن كنتَ تسعل ولديكَ حمّى، ابقَ في المنزل وتواصل مع طبيبكَ العام. في حال ازدياد الأعراض، اتّصل بالطوارئ". كان هذا التسجيل يتكرّر كلّ ساعة على إحدى الإذاعات الفرنسية في الراديو. أثناء تواجدي في العمل، وباقي العمّال في منازلهم هذه الأيام، أستمعُ لصوتٍ أنثوي يُعيد التحذير ويسرد التعليمات برتابة بيروقراطية، مع لمسة بسيطة من التفاؤل. بعد انتهاء التسجيل فورًا وقبل انطلاق جولةٍ جديدة من الأغاني، يُذكّر تسجيلٌ آخر بصوتٍ أنثوي أيضًا على الإذاعة ذاتها، بضرورة البقاء في المنزل وتحديث بيانات التسجيل في "مركز العمل" (Pôle emploi)، فـ"العملية بسيطة ولا تحتاج للكثير من الوقت"! أردّد في الوقت ذاته مع زميلة شيشانية الأصل وأخرى من رومانيا: أوكي.. بالطبع سنبقى في منازلنا ونحدّث بيانات التسجيل. كنّا حينها قد استمعنا للتسجيل للمرّة الرابعة على التوالي، وبدأ تعب اليوم يتسلّل إلينا.
ماذا لو كنتُ أحد المصابين بالعمى مِن مُحتَجَزِي جوزيه ساراماغو في روايته "العمى"؟
لسببٍ ما، وعلى رغم امتلاكنا حريّة الاختيار، لم يقم أحدٌ منّا بإطفاء الراديو أو حتى بتغيير الإذاعة بعد الضجر المؤقّت من وراء التسجيلات. ربّما الاستماع للموسيقى وسط أجواء الموت وانتشار المرض، كان دافعًا لمواصلة العمل وتجاوز ما هو غير هام. كموسمٍ حلّ وعمّت احتفالاته الجميع، احتلّت هذه التسجيلات مكانها في الإذاعات وقنوات التلفاز والمواقع الإلكترونية، وبات من السهل طبعًا تخطّيها بلا عناء. لكن ماذا لو كنتُ أحد المصابين بالعمى مِن مُحتَجَزِي جوزيه ساراماغو في روايته "العمى"؟ هناك في ردهات مستشفى الأمراض العقلية، حيث الممرّات الطويلة والمهاجع الواسعة والفوضى العارمة، وبسبب فقدان البصر، يتوجّب الاستماع كلّ يوم إلى التسجيل ذاته، بالصوت ذاته، وفي الوقت ذاته. هناك، لا توجد رفاهية البقاء في المنزل أو الاستماع للموسيقى وتناول ما يخطر على البال من طعام وشراب. الاستماع للتسجيل الحكومي أمرٌ إلزامي لا مهرب منه. مُكبّرة صوت مُثبّته فوق الباب الرئيسي للمستشفى، يخرج منها صوتٌ أجشّ يُكرّر ثلاث مرّات كلمة "انتباه"، فيتردّد صداها بين الجدران العالية قبل استئناف الرسالة: "تأسف الحكومة لأنها كانت مرغمةً على القيام بشكل عاجل جدًا بما تعدّه واجبها الشرعي لحماية السكّان بكل الوسائل المتاحة في خضم هذه الأزمة الحالية، حيث اندلع شيء يمتلك كل مظاهر وباء العمى، الذي سُمّي مؤقتًا بـ(المرض الأبيض)". وقبل أن يشرع صاحب الصوت بسرد الإرشادات الخمس عشرة الواجب اتّباعها، يؤكّد على أنّ "الحكومة تعي جيدًا مسؤولياتها وتأمل أنّ جميع الأشخاص الذين تُوجّه إليهم هذه الرسالة، وهم مواطنون صالحون بلا شك، يفترضون أيضًا أنها مسؤوليتهم، آخذين بعين الاعتبار أنّ العزلة التي يجدون أنفسهم فيها الآن، سوف تمثّل عدا عن الاعتبارات الشخصية، عملًا من أعمال التضامن مع بقية سكّان الأمّة".
اقرأ/ي أيضًا: حجر سيناء الأبدي
پيلا، زميلٌ آخر لي في العمل من هنغاريا، لم يكن يفهم رسائل التحذير التي كانت تخرج من الراديو. يعيش پيلا وسنواته الخمسون في كارافانة صغيرة. لديه موبايل صغير لاستقبال المكالمات فقط، ولا يعرف من الفرنسية سوى "Merci". كان پيلا يتجوّل بيننا حين توقّف فجأة وتطاير من أنفه رذاذ عطاسٍ شديد. بدا الرذاذ كما لو أنه فراشات صغيرة تتعلّم الطيران. نظر الجميع نحوه وأشاروا إليه بسبّاباتهم: "كورونا!".
ضحكوا وعادوا إلى ما كانوا عليه. لم يرَ پيلا أصابع الآخرين وهي تتّجه إليه كالسهام، فهو يعاني من حالة طول النظر (عدم القدرة على رؤية الأجسام القريبة بوضوح). حين سَمِع الجميع وقد ضحكوا، انفجر هو الآخر ضاحكًا وقد بانت أسنانه المهترئة.
رسائل تحذير جديدة خرجت هذه المرّة من الفلبين. رودريغو دوتيرتي، رئيس البلاد، قال في خطابٍ تلفزيوني مُحذّرًا الذين ينتهكون إجراءات الحجر الصحي المنزلي: "الأوضاع تسوء، لذا فإنني أخبركم مرّةً أخرى بخطورة المشكلة وعليكم أن تنصتوا. أوامري للشرطة والجيش هي أنه إذا كانت هناك اضطرابات، ورأيتم أنّ حياتكم في خطر بسبب مواجهتهم لكم، فاقتلوهم رميًا بالرصاص! هل هذا مفهوم؟ القتل. سأدفنكم بدلًا من أن تتسبّبوا في إثارة المتاعب".
رئيس الفلبين قال: "أوامري للشرطة والجيش هي أنه إذا كانت هناك اضطرابات، ورأيتم أنّ حياتكم في خطر بسبب مواجهتهم لكم، فاقتلوهم رميًا بالرصاص!"
هنا، غاب الصوت الأنثوي، وبات الصوت الأجشّ رفاهيةً أمام حضور وجهٍ متجهّم وصوتٍ يتوعّد بالرصاص. التهديد بالقتل كان مُوجّهًا لساكني إحدى المناطق الفقيرة في العاصمة مانيلا، بسبب احتجاجهم على نقص المساعدات الغذائية التي تقدّمها الحكومة. الجوع يطرق أبواب منازلهم المظلمة. الرئيس في عالمٍ آخر، وهم غارقون في عالم الخوف والفقر. عالمُ القاع لمرضى ساراماغو، حين عَصَرَ الجوع عقولهم قبل بطونهم، ظهرت غريزة البقاء؛ انتشر القتل، وبات القويّ يحكم الضعيف ويستلذّ بإخضاعه وإذلاله. عالمُ دوتيرتي يختلف تمامًا عن عالم طبقة "إبسيلون" التي ينتمي لها پيلا وهؤلاء الكادحين. صحيحٌ أنّ طبقة "إبسيلون" تحتلّ القاع في سلسلة المجتمع من "عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي، لكنها على الأقل تتساوى مع الطبقات التي تعلوها في خصائص غياب الشعور بالجوع والألم والخوف من الموت والشيخوخة.
اقرأ/ي أيضًا: الفنانة حياة الفهد.. التبرم من التضامن الإنساني
في طريق العودة من العمل إلى المنزل راكبًا درّاجتي الهوائية الزرقاء، المدينة شبه فارغة كحالها منذ ثلاثة أسابيع. سيّارةٌ للشرطة توقّفت عند تقاطع شارعين رئيسيّين. توزّع منها أربعة عناصر في اتجاهات مختلفة. كان نصيب اتجاهي سيّدة بدت جميلة وهي ترتدي الزيّ الرسمي. لم تُوقِف السيّدة صاحب الدرّاجة الذي كان يسبقني ببضع أمتار، لكنها أشارت بيدها لكي أتوقّف. "مرحبًا، هل لديك تصريح التنقّل؟". نعم، ها هو. "والبطاقة الشخصيّة من فضلك". ها هي. "تفضّل. شكرًا لك. يومًا سعيدًا". أوكي. شكرًا لكِ. أهمّ بالمغادرة وأُراقب پيلا يقترب من خلفي، ماذا لو أوقفته تلك السيّدة، وهو الذي يحمل علبة السجائر بدلًا من بطاقته الشخصية، وورقة تصريح التنقّل يعتبرها وزنًا زائدًا، ودرّاجته الهوائية كان قد سرقها منذ أشهرٍ طويلة قبل موسم "كورونا"؟
اقرأ/ي أيضًا: