تتجلى ظاهرة العنف المعمم بأشكال متعددة في حياة البشر، واحدٌ منها هو العنف الأسري ضد النساء في العالم، وهو أحد أكثر تجلياتها غموضًا، نظرًا لكونه يحدث خلف الأبواب المغلقة، ويزيد على ذلك، في عدد لا يستهان به من المجتمعات، صمت المرأة على ما يقع عليها من عنف.
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن واحدة من بين كل ثلاثة نساء في العالم، تتعرض للعنف من قبل شريك حياتها أو أحد أقاربها
ووفقًا لدراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، فإن العنف الأسري السبب الرئيسي للوفاة أو لإحداث الأضرار التي تلحق بصحة النساء خلال الفترة العمرية ما بين 16 و44 عامًا. كما يُعد العنف الأسري من بين أكثر أسباب الموت شيوعًا بين النساء. وقد فاقت نسبة الموت بالعنف الأسري، الموتَ بالسرطان والملاريا وحوادث الطرق!
اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن سوء المعاملة العاطفية؟.. وحش العنف الخفيّ ضد المرأة
وتؤكد دراسة صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، في تشرين ثاني/نوفمبر 2018، أن المنزل "من أخطر الأماكن على المرأة"، وكشفت الدراسة أن أكثر من نصف النساء اللواتي قتلنّ حول العالم، خلال 2018، تعرضن لعنفٍ منزلي أفضى لموتهن، سواءً من الأزواج أو أحد أفراد الأسرة.
ووفقًا لنفس الدراسة، فإنه من بين 87 ألف جريمة قتل كانت ضحيتها أنثي، ثمة حوالي 30 ألف جريمة نفذها شريك حالي أو سابق للضحية. هذا الرقم يعادل حوالي ست نساء يُقتلن كل ساعة على يد شخص يعرفنه!
وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية فإن كل واحدة من بين كل ثلاثة نساء في العالم، تتعرض للعنف من قبل شريك حياتها، أو من الأقارب. وقالت المنظمة الأممية، إن العنف الأسري هو أكثر أشكال العنف الذي تتعرض له المرأة شيوعًا.
لا يقتصر العنف الأسري الممارس ضد النساء على الضرب والإيذاء الجسدي، بل يشمل أيضًا العنف اللفظي والتهميش والحرمان، إلى جانب التنميط لدور المرأة خارج أو داخل البيت على حد سواء.
وفي ظل حالةٍ عامة من غياب القوانين الواضحة لحماية المرأة من التعرض للعنف من قبل شريكها أو أحد أقاربها، يزداد رصد حالات العنف ضد المرأة حول العالم.
إحياء القضية من إسراء غريب
أحيت حادثة الشابة الفلسطينية إسراء غريب، قضية العنف الأسري ضد المرأة في العالم العربي، بعد أن اجتاحت قصتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم نفي ذويها أي علاقة لهم بتعنيفها بما أفضى لموتها، وادعاء مرضها النفسي والحديث عن علاقة "الجن" بموتها! إلا أن النائب العام الفلسطيني أمر بإلقاء القبض على ثلاثة من ذويها متهمين بقتلها، بعد أن أكدت تقارير الطب الشرعي أن الفتاة توفت نتيجة مضاعفات ضرب وتعذيب.
أخذ الحديث عن العنف الأسري ضد المرأة زخمًا متجددًا بعد قضية إسراء غريب، التي طولب على إثرها بصياغة قوانين تحمي المرأة، وطرحت مقاربات في هذا الصدد.
إجراءات عاجلة في فرنسا
لم يكن هناك قانون واضح يقف في وجه الانتهاكات الأُسريّة التي تواجهها النساء في فرنسا، قبل أن يستعد عدد من أعضاء البرلمان الفرنسي لإعداد صيغة قانون رسمي لمكافحة ظاهرة العنف الأسري بشكلٍ حازم، ليأتي هذا القرار بعد أن أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، بداية هذا الشهر، عن "ضرورة اتخاذ إجراءات طارئة لحماية السيدات من العنف".
واحدة من هذه الإجراءات تمثلت في تشكيل أكثر من 400 نقطة استماع عاجلة للسيدات اللواتي يشعرن بحاجة للإفصاح عن الوضع الذي يعشنّ به، بعد أن وفرت الحكومة الفرنسية أيضًا رقم هاتف للطوارئ يستقبل الاتصالات العاجلة بهذا الشأن.
وتأتي هذه الإجراءات بعد أن نظمت أكثر من عشرات النساء في باريس، وقفة احتجاجية للحصول على دعم حقيقي من قبل السلطات الرسمية، بعد أن قضت أكثر من 100 امرأة في فرنسا على أيدي أزواجهنّ نتيجة العنف الأسري، منذ بداية عام 2019.
وفي عام 2018، أطلقت عشرات المشاهير من مغنيات وممثلات، حملة لمواجهة العنف الجسدي الأسري الذي تتعرض له النساء في فرنسا، حيث أشارت دراسة قام بها المركز الوطني لمكافحة العنف ضد النساء في عام 2017، إلى وفاة 130 امرأة بسبب تعرضها للعنف من قبل الشريك الحالي أو السابق، بمعدل امرأة تموت كل يومين ونصف تقريبًا في فرنسا، بسبب عنف من قبل الشريك.
حرّك هذا الواقع النشطاء للمطالبة بتغيير السياسة التي تتعاطى بها الحكومة والأجهزة الأمنية مع النساء اللواتي تعرضنّ للعنف، بمساعدتهنّ على تقديم الشكوى وإيلاء الأهمية لتلك الشكاوى بعيدًا عن بطء العملية البيروقراطية.
هذا ويُذكر أن فرنسا تأتي ثالثًا في الاتحاد الأوروبي بعد هنغاريا وألمانيا من حيث ارتفاع معدلات العنف الأسري ضد النساء، وفق إحصائيات حددت إسبانيا كأقل نسبة من بين دول الاتحاد الأوروبي.
ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، فإن إسبانيا، صاحبة المعدلات الأقل في العنف الأسري ضد المرأة، توفيت فيها 44 امرأة خلال 2018، بسبب تعرضهن للعنف من شركائهن.
وفي ألمانيا، صدر ما يقارب 420 قرارًا قضائيًا خلال شهر حزيران/يونيو 2018، بتوفير الحماية الفورية لضحايا العنف الأسري، نتيجة ارتفاع معدلات الإبلاغ عن حالات العنف من هذا النوع.
ولا يبدو أنه من الممكن عزل التقاليد والأعراف والعادات الاجتماعية، عن حالات العنف الأسري ضد المرأة، فبحسب تقرير منظمة العفو الدولية السنويّ لعام 2018، فإن الانتهاكات التي تتعرض لها النساء من قبل الأقرباء، غالبًا ما تنشأ من "التقاليد الثقافية وهيمنة السلطة الأبويّة". وأضاف التقرير بأنه في العديد من بلدان العام، تحكم تلك التقاليد والأعراف بقوة القانون الذي يكرس لها.
وأشارت المنظمة أيضًا إلى "ضعف الإرادة السياسية" و"محدودية الموارد اللازمة للتحقيق مع الجناة"، باعتبارهما من بين الأسباب الرئيسي في استمرار العنف والإفلات من العقاب.
إحصائيات عالمية حول العنف الأسري ضد المرأة
تختلف الإحصاءات المتعلقة بالعنف بين الزوجين أو الشراكات اختلافًا كبيرًا من بلد إلى آخر، وفقًا لتقرير شعبة الإحصاء في الأمم المتحدة، ففي بريطانيا تبلغ نسبة النساء اللواتي يتعرضن للإيذاء من قبل الأزواج 30%، في حين تقتل في باكستان كل عام أكثر من ألف امرأة باسم "الشرف".
وفي تركيا، تقع حوالي 200 امرأة وفتاة ضحية جرائم الشرف على أيدي أقربائهن، أما بالنسبة للأردن، يقدر عدد ضحايا هذا النوع من الجرائم بنحو 23 ضحية في السنة، بينما تبلغ النسبة في مناطق غرب الأردن 52%.
وتذكر الإحصائيات أيضًا دول مثل نيكاراغوا التي تبلغ فيها نسبة ضحايا العنف من النساء 28%، وبنغلاديش بنسبة 47%، والسنغال بنسبة 87%! أما في كندا فتبلغ نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف المنزلي 29% وفي أستراليا 23%.
وحتى وقت صدور تقرير العفو الدولية السنوي لعام 2018، فإن العديد من البلدان حول العالم، لديها قوانين تسمح بإصدار أحكام مخففة بحق الرجال "الذين يثبت أنها قتلوا قريبة لهم خلال ثورة غضب، إثر قيام الضحية بأمر غير مشروع". لكن المملكة الأردنية قامت بإلغاء مثل تلك الأحكام، مع أنها أبقت على قانون آخر يجيز التساهل مع الرجال في حالة ارتكاب النساء لـ"جرائم الشرف"!
مع ذلك، يعتبر الأردن من الدول العربية التي تحرز تقدمًا في جهود الحد من العنف ضد المرأة. أما في تونس، فقد سبق للبرلمان أن اعتمد مشروع قانون من شأنه تقديم ضمانات للنساء والفتيات اللواتي تعرضن ويتعرضن للعنف.
وفقًا لحسابات مكتب الأمم المتحدة المعتمدة على الدراسة ذاتها التي أجراها مكتب المخدرات والجريمة العام الماضي، فإن المعدل الإجمالي لضحايا جرائم القتل من الإناث حول العالم هو 1.3 لكل 100 ألف امرأة. وتتصدر أفريقيا والأمريكتين قائمة الخطر على النساء من قبل شركائهن أو أقاربهن.
ففي أفريقيا يبلغ المعد 3.2 لكل 100 ألف امرأة، وفي الأمريكتين 1.6، في آسيا يبلغ المعدل 0.9، أما في أوروبا فيبلغ المعدل 0.7، وهو الأقل عالميًا، لكن وفقًا لمكتب الأمم المتحدة، لم يتم إحراز أي تقدم ملموس في مكافحة العنف الأسري في السنوات الأخيرة على الرغم من التشريعات والبرامج الموضوعة للقضاء على العنف ضد المرأة.
في المقال، لا تزال تُنظّم المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بمكافحة العنف الأسري ضد النساء، وإعداد قوانين صارمة من شأنها ملاحقة المعتدي وتجريمه ممارساته، كان آخرها في عاصمة جنوب أفريقيا، حيث اجتمعت حوالي 100 امرأة في جوهانسبرغ، في 13 أيلول/سبتمبر للتنديد بالعنف ضد المرأة بعد اغتصاب وقتل طالبة تبلغ من العمر 19 عامًا.
وفي هذا السياق، يُذكر أنه في عام 2018، قتلت في جنوب أفريقيا ثلاث آلاف امرأة تقريبًا، أي بمعدل امرأة واحدة كل ثلاث سنوات. وتعتبر جنوب أفريقيا اليوم واحدة من أخطر المناطق في العالم بالنسبة للنساء.
وفي لبنان، وعلى ضوء قضية رنا البعينو، ضحية العنف الأسريّ الأخيرة التي شغلت الأوساط اللبنانية، أطلقت مؤسسة "أبعاد" فيديو توعوي ضمن نشاطها في حماية النساء اللواتي يتعرضنّ للعنف الأسري، ونشر الوعي بحقيقة هذه المشكلة المجتمعية، وضمن خطة تمكين النساء في المجتمع.
وبالعودة لقضية الفتاة الفلسطينية إسراء غريب، يتضح دور الضغط الإعلامي في تنفيذ العدالة بحق من تعرضوا لها بالعنف من ذويها، خاصة وأنه كما يبدو، كان من الممكن أن تغلق القضية بأحد ادعاءات ذويها.
تتصدر قارة أفريقيا قائمة جرائم القتل ضد الإناث بمعدل 3.2 لكل 100 ألف امرأة، تليها الأمريكتين بمعدل 1.6 ثم آسيا بمعدل 0.9 فأوروبا بـ0.7
وكشفت قضية إسراء غريب عن كيفية تعاطي المجتمع والسلطات في المنطقة العربية، مع هذا النوع من الجرائم، وقد أعادت الحديث حول ضرورة البدء في معالجة جذرية لقضية العنف الأسري ضد المرأة، من خلال القوانين الصارمة.
اقرأ/ي أيضًا:
"اغتصاب الزوجة".. شرعنة العنف الجنسي في السودان
سرديات الاغتصاب والتحرش.. فتيات عربيات يكسرن الصمت