صناعة الغزل والنسيج في مصر صناعة قديمة وهي جزء من الملامح الوطنية للقطر المصري. بدأت صناعة النسيج في مصر في الانتشار في أواخر القرن التاسع عشر وتحديدًا في عام 1898 وهو العام الذي أنشئت فيه الشركة الأهلية للغزل والنسيج وكان من أدخل الصناعة إلى مصر محمد علي باشا، حيث تم إنشاء شركة الغزل النسيجية في الإسكندرية عام 1911، ثم بدأت البذرة الحقيقية للصناعة في مصر بإنشاء شركة المحلة للغزل والمنسوجات عام 1930.
بعد سياسات الانفتاح على الخواص التي اتبعها السادات، أصيبت صناعة الغزل والنسيج بالوهن وكان ذلك بسبب عزوف الحكومة عن الاهتمام بها
وساعد على ازدهار الصناعة الوليدة بمصر وقتها قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 وانقطاع الواردات الأجنبية، كما أسهم بنك مصر في استكمال بناء أعمدة الصناعة في مصر فأنشأ شركات مثل: شركة كفر الدوار، وصباغي البيضة، وشركة مصر-حلوان، وكان ذلك كفيلًا بأن تحقق مصر في هذه الفترة الاكتفاء الذاتي من المنتجات النسيجية بعد أن كانت تستوردها.
اقرأ/ي أيضًا: مهن السوريين في تركيا تتقدم وتزدهر
أما التحدي الأول لهذه الصناعة فكان في عودة الواردات الأجنبية بعد انتهاء الحرب خاصة في الفترة بين (1949-1952)، الأمر الذي دفع حكومة جمال عبد الناصر إلى إنشاء صندوق لدعم الغزل والمنسوجات القطنية عام 1953، وقد تميزت الفترة التي تلت التأميم بازدهار هذه الصناعة.
وبعد سياسات الانفتاح التي اتبعها السادات في السبعينيات بإصداره القانون رقم 43 لسنة 1974، استطاع القطاع الخاص أن ينافس القطاع العام، وهنا أصيبت هذه الصناعة بالوهن وكان ذلك بسبب عزوف الحكومة عن الاهتمام بالقطاع، وانخفض إنتاج صناعة المنسوجات والملابس الجاهزة تدريجيًا، وأخيرًا جاءت الأزمة العالمية لتزيد من معاناة هذه الصناعة الأصيلة في مصر.
واستمر التدهور يلاحق الصناعة المهمة مصريًا، فمن زراعة مليون فدان من القطن عام 1992 إلى 921 ألف عام 1996 إلى 706 ألف عام 2002، حتى وصل إلى حوالي 300 ألف فدان فقط عام 2009 مما كان له تأثير كارثي على العمال في مصر وعلى صناعة الغزل والنسيج كقطاع. فاجتمعت أسباب التدهور من سياسات حكومية غير مدروسة من جهة وإهمال يكاد يكون متعمدًا إلى أزمة عالمية خانقة، من جهة أخرى، أثرت بدورها على كل الاقتصاد المصري الهش.
وأكثر من دفع فاتورة هذا التهاون هم عمال مصر الذين تشردوا وانخفضت معدلات دخولهم وأُحيل كثير منهم إلى المعاش المبكر (التقاعد المبكر)، واستقوت الدولة برجال الأعمال الداعمين لسياساتها والمستفيد الأول منها واستمرت خسارات القطاع حتى وصلت إلى 32 مليار جنيه.
ويظل القطاع يعاني تخريبًا على مستوى ظروف العمل القاسية التي تصل أحيانًا إلى 12 ساعة بالإضافة إلى تدني الرواتب وغياب التنظيم النقابي في معظم شركات ومصانع الغزل والنسيج.
اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. الصناعات التقليدية تعاني عديد الصعوبات
تاريخ من الاحتجاجات والكفاح
في كانون الأول/ديسمبر عام 2006، بدأ عمال النسيج إضرابهم الأول الذي اعتبر نواة الحركة الاحتجاجية في القطاع كرد فعل على تدني أجورهم وارتفاع الأسعار. كان حجم الإضراب كبيرًا بحيث شارك فيه 24 ألف عامل وعاملة في المحلة واعتُبر وقتها أكبر موجة احتجاجات منذ الأربعينيات. استمر الإضراب وقتها لثلاثة أيام واضطرت الحكومة للتفاوض مع العمال.
تستمر الأجهزة الرسمية المصرية في "تجاهل" مصانع الغزل والنسيج ذات التاريخ العريق وتتجاهل حاجة القطاع للتجديد والتطوير
أما إضراب كانون الأول/ديسمبر 2007، الثاني لعمال الغزل فكانت مدته أسبوعًا كاملًا، للمطالبة بتحسين الأجور وأوضاع العمل، وإقالة إدارة الشركة المملوكة للدولة، وانتخبت لجنة عمالية للتفاوض، لحماية المنشآت والمعدات حتى لا تقع أي مؤامرات للتخريب وإدانة العمال من خلالها.
اتحد وقتها عمال المحلة مع موظفي الضرائب العقارية وقاموا بتأسيس لجنة منتخبة لقيادة الإضراب يتشكل أعضاؤها من كافة المحافظات المصرية، المفاجأة أن أعضاء لجنة قيادة الإضراب قرروا بعد نجاحه، تحويل اللجنة إلى نقابة مستقلة، وانسحب قادتها بشكل جماعي من النقابات الرسمية التي يرونها موالية للدولة، وهكذا بدأت حركة النقابات المستقلة في مصر، التي اتسعت اليوم لتشمل أكثر من 200 نقابة.
ثم بدأت سلسلة من الإضرابات، منها على سبيل المثال إضراب عام 2008 الذي كان شاملًا وطالب العمال أن يكون الحد الأدنى من الأجور في حدود 1200 جنيه الذي كان يعادل وقتها (200 دولارًا). ولم ينس المصريون أن هذا الإضراب الشامل كان أول إضراب يمزق فيه المصريون في المحلة صورة مبارك في الشوارع. وقتها قلل مبارك من شأن الحدث.
واليوم تستمر الأجهزة الرسمية للدولة في "تجاهل" مصانع الغزل والنسيج ذات التاريخ الوطني العريق، التي لطالما "خدمت" المصريين في أحلك الظروف العالمية، وفي ظل هذا التجاهل المتعمد لحاجة القطاع للتجديد والتطوير فقد تم إغلاق 70% من المصانع الموجودة بمدينة المحلة حيث 860 مصنعًا مغلقًا من مجموع 1200 مصنعًا، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الغزل مع منافسة المنتجات الصينية فضلًا عن زيادة أسعار الطاقة والوقود.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن "لماذا يستمر النظام في تجاهل دعم هذه الصناعة الوطنية في حين أن الاقتصاد في أشد الحاجة إليها؟ ولماذا يظل الاعتماد على المنتج الأجنبي الذي يكلف عملة أجنبية للاستيراد في حين أنه قادر ببعض الجهود أن يوفر هذه العملة لصالح تطوير صناعاته الوطنية؟.
اقرأ/ي أيضًا: