لكل شعب مزاج في الكيف. فبالإضافة إلى مختلف أنواع السجائر يُدمن المدخنين في مصر والشام ومعظم البلدان العربية على الشيشة أو الأركيله التي يستخدم فيها التبغ المصنوع المسمى بالمعسل. وفي اليمن يُكيف الغالبية على تدخين الـمَدَاْعَة التي تحوي على تبغ خاص مزروع يسمى التتن غير المصّنع .وقد ارتبطت الـمَدَاْعَة بالصناعات التقليدية والحرف اليدوية التي اشتهر بها اليمنيون؛كما ارتبط تدخينها بطقوس اجتماعية متوارثة منذ مئات السنين.فما هي الـمَدَاْعَة ؟وما هي أنواعها؟وما هو التتن؟وما هي مناطق زراعته؟
للمداعة حضور طاغ في المنازل اليمنية، ويتم استعمالها خصيصًا ما بين صلاتي العصر والمغرب
صناعة الكيف
في المحل الذي توارثوه عن جدهم في السوق القديم لمدينة صنعاء العتيقة يجتمع محمد وبدر وقناف صباح كل يوم لممارسة حرفتهم اليومية وهي صناعة المداعة التي ماتزال تحظى بطلب خاص من عائلات يمنية؛ لكن محمد الثلايا وهو كبير الصنائعيين المتخصصين في صنعاء، يرى بأن صناعة المداعة أصبحت باهظة التكاليف بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة في صناعتها، وضعف القدرة الشرائية عند الناس؛ ورغم ذلك فإن صناعة المداعة ترضي شغفه هو وإخوانه في حب الصناعات الحرفية ومن أجل ذلك يُضحون بوقتهم وجهدهم.
اقرأ/ي أيضًا: سجون التعذيب الأمريكية في اليمن.. الإمارات تتوكل بإرث بوش الابن
يقول الثلايا لـ"التراصوت":"تعتبر المداعة الصناعة الحرفية الوحيدة في اليمن التي لم تطالها الآلة الصناعية الصينية، هناك بعض المدائع المستوردة من الهند فقط لكن اليمنيين لا يفضلون إلا الصناعة المحلية للمداعة التي يصل ثمن بيعها إلى500 ألف ريال (1000دولار)".
تصنع المداعة من الخشب والرصاص والنحاس والفخار والجلد والخيوط. وفي شكلها العام تتكون المداعة من"المعشره والجلاس والجوزي والقطب والقصبة والديك والضبة والبوري والمشرب". وجميعها مصطلحات خاصة باليمنيين.
التقى"التراصوت" بأحد أشهر الحرفيين في صنعاء عبدالله الدريبي، الذي بدوره شرح شكل المداعة وكيفية صناعتها، قائلاً: "للـمَدَاْعَة قواسم مشتركة مع الشيشة التي تشابهها من حيث الكيف والمزاج، وتختلف عنها في الشكل فالمداعة حجمها كبير، أول جزء من المداعة يسمى الجلاس وهو قاعدة نحاسية، وأعلى الجلاس يوجد الجوزي أو البلبلة وهي الدائرة البيضاوية التي تصنع من قشرة جوز الهند، حيث يزال لبّها حتى تصير فارغة، ثم تجلى جلياً لطيفاً وتصقل صقلاً ناعماً وتغطى بطبقة خفيفة من الخشب ثم النحاس، وتملأ فيها الماء، وتثقب ثقبين: الثقب الأول في رأسها،وثقبا أنزل منه، ويوضع في الثقب الأعلى قلب من خشب مخروط الطيف مثقوب، وفي الثقب الثاني قصبة مجوفة على رأس القلب المذكور ورأس من نحاس أصفر يوضع على القلب ويسمى بالقطب، وهو مجوف مغطى من الخارج بزخارف رصاص يتوسطه الديك وهو مقبض القصبة وينتهي بالضبة وهو المكان الذي يضع فيه الرأس الاسطواني المفتوح من الأعلى المسمى بالبوري الذي يوضع فيه التمباك المسمى بالتتن".
اقرأ/ي أيضًا: معالم وآثار اليمن.. تدمير ممنهج متعدد الأطراف
ويواصل الدريبي حديثه عن شكل المداعة، بالقول: "لا يمكن أن تكون المداعة صالحة للاستخدام بدون القصبة وهي أداة شفط الهواء وتكون بطول يتراوح 3 و6 أمتار وتصنع من هيكل حديدي حلزوني ومغطى بالجلد والقماش الجر، ولها رأسان من الخشب المزخرف يوصل أحدهما بالمداعة والثاني يستخدم لشفط الهواء".
التتن اليمني
يرجع باحثون تسمية التبغ اليمني بالتتن إلى اللغة التركية، ووفقاً لمجلة الإكليل اليمنية فإن "أول ظهور للتتن كان في عهد سنان باشا أحد القادة العثمانيين في اليمن، ووصل به إلى اليمن حكيم مغربي هو الشيخ علي المغربي سنة 1013 هجري، وجاء معه بشيء من بذوره فاستنبته في مدينة زبيد اليمنية وصلح نباته، وكان أول مرة تباع الأوقية منه بقرش فضة وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت حتى انتشر وعرفه الناس فنزل سعره ".
تمر زراعة التتن بمراحل عدة منها وضع السماد بفضلات الطيور والسمك وروث البهائم. وتحتاج زراعة التتن لكميات كبيرة من المياه. أما عند الحصاد فيتم خزن أوراق التتن في غرف صغيرة ويتم تكسريها إلى قطع بعد تجفيفها،ث م تربط في حزم كبيرة وتعبأ في جوالات مستطيلة، وزنها 300 رطًلا. بحسب حديث المهندس الزراعي حامد عبدالله لـ"التراصوت".
يحظى الكيف، ومنع التبغ وأساليب التدخين بحضور ملموس في التراث الأدبي اليمني والعربي، خاصة المعاصر
في الوقت الراهن يباع التتن في الأسواق التي تباع فيها المداعة في العاصمة صنعاء منها سوق الحتارش، وسوق القاع، وسوق صنعاء القديمة الذي التقينا فيه بعبده العرشي، صاحب أقدم محلات بيع للتمباك، يتحدث عبده لـ"التراصوت" عن أن كبار السن هم الفئة التي تُقبل على طلب التمباك، وأبرز أنواعه البشاري الذي يزرع في منطقة تهامة غربي اليمن، والعدني والأبيني اللذان يزرعان في منطقة أبين جنوبي اليمن، والغيلي الذي يزرع في منطقة غير باوزير بحضرموت شرقي اليمن وهو النوع الأجود والأغلى ثمناً، حيث يصل سعر بيع الحزمة الواحدة منه إلى 25 ألف ريال (الدولار يساوي خمسون ريالاً يمني).
طقوس مُلهمة
تحرص عائلات يمنية على أن يكون لتدخين المداعة في منازلهم طقوس خاصة من بين هذه الطقوس: عدم تدخين المداعة إلا عند وقت القيلولة أي بعد صلاة العصر حتى قبل صلاة المغرب، إضافة إلى عدم البدء في التدخين إلا عقب وضع المداعة في المعشرة وهي إناء نحاسي مزخرف، كما يحرص البعض على أن لا يسمح لصغار السن بتدخين المداعة واقتصار ذلك على البالغين الذين يُسمح لهم بالتناوب على تدخينها، مع تغيير المشارب، خلال تناول القات.
شعراء وأدباء يمنيين وعرب كانت لهم قصائد لوصف المداعة المستخدمة في تدخين التتن، من بينهم الشاعر السوري علي إسبر المعروف بالشاعر أدونيس الذي كتب نصاً شعرياً تحت عنوان "اجلسوا لكي أقص عليكم نبأ الدخان”،يقول الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح عن نص أدونيس الشعري حول المداعة :"يعد من أبرز النصوص الوصفية في الشعر العربي ، فهو إذ يدلف إلى النص بعتبة “. ويقول نص قصيدة المدعة لأدونيس:
تسكن المداعة وحيدة في بيت الكلام
تحضنها قصبة بين الماء والنار.في أسفل قطبها
حيث يعوم طيف للنرجس يحلم التاريخ هانئا
تحت هلال تقوس في شكل وسادة تتكئ عليها القصبة
(للقصبة جسد ليس لهذا الهلال، وليس لها، هو لشخص آخر- حرك شفتيك قد يكون أنت).
ويمضي أدونيس بنص طويل في وصف المداعة،قائلاً: "ضع شفتيك على مبسم المداعة انزل جوف الوقت اسكن اللغة الصامتة الأخرى انظر الفضاء حولك يفتح صدره لساعة الحكمة".
يذكر أن دراسة سابقة لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون الخيجي أوضحت بأن اليمن تعد الأكثر استهلاكا للتبغ عربيًا تليها المملكة العربية السعودية، مما يشي بواقع تراث وممارسة يومية طويلة تعد من الأمور الشائعة كثيرة التداول والألفة بين اليمنيين.
اقرأ/ي أيضًا:
أرض الألغام.. اليمن ساحة مفتوحة على الموت
الأسوشيتد برس: اغتصاب وابتزاز جنسي في سجون الإمارات في اليمن