ألترا صوت – فريق التحرير
أصدرت "منشورات الجمل" في العاصمة اللبنانية بيروت، حديثًا، رواية "زمن عصيب"، وهي ترجمة مارك جمال العربية لرواية الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا "Tiempos recios"، التي صدرت عام 2019 عن دار "Alfaguara"، ونالت في العام ذاته جائزة "فرانسيسكو أومبرال لكتاب العام".
يضيء ماريو بارغاس يوسا في الفصل الأول من روايته على الكيفية التي كانت تُصنع بها الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية
يعود ماريو بارغاس يوسا في روايته هذه، إلى الاشتغال على موضوع "الدكتاتورية" في أمريكا اللاتينية، حيث تدور أحداثها في أجواء الانقلاب العسكري، الذي نفذه كارلوس كاستيلو أرماس في غواتيمالا سنة 1954، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، ضد حكومة جاكوبو أريينز، الذي وصل إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات.
اقرأ/ي أيضًا: ماريو فارغاس يوسا: الصوابية السياسية عدوة الحرية
يجمع الروائي البيروفي في هذه الرواية التي تتصل أجواؤها بأجواء روايته الشهيرة "حفلة التيس"، بين الأدب والتأريخ والتوثيق، وهو ما يتجلى في الفصل الأول، الذي يمكن قراءته كنص منفصل عن بقية الرواية، ذلك أنه جاء، من حيث الشكل والأسلوب، أقرب إلى القصة القصيرة، أو ربما المقالة الاستقصائية أو التاريخية.
يقدّم يوسا في هذا الفصل ما يمكن اعتباره مدخلًا للرواية من جهة، والكيفية التي كانت تُصنع بها الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية من جهةٍ أخرى، حيث يتداخل الاقتصاد بالسياسة والعلاقات العامة والمصالح الشخصية والتزييف والبروباغندا في صناعتها، وهو ما حدث، على سبيل المثال، في غواتيمالا سنة 1954، إذ يشير يوسا إلى أن أسباب الانقلاب كانت اقتصادية بحتة، وأن من يقف خلفه، بالدرجة الأولى، هي شركة "United Fruit" التي رأت في إصلاحات حكومة جاكوبو الاقتصادية والزراعية، تهديدًا مباشرًا لوجودها في غواتيمالا.
ننشر هنا الفصل الأول من الرواية بالاتفاق مع الناشر.
على الرغم من جهل الغالبية العظمى من الناس بأمرهما، وعلى الرغم من ظهورهما في كتب التاريخ على قدر كبير من الاستحياء، فمن المُرجَّح أن يكون الشخصان الأكثر تأثيرًا في مصير غواتيمالا، ومصير أمريكا الوسطى بأسرها في القرن العشرين، بطريقة أو بأخرى، هما إدوارد ل بيرنيز وسام زيموراي، اللذين يستحيل أن يختلف أحدهما عن الآخر أكثر مما اختلف بالفعل، في الأصل والمزاج والمهنة.
وُلِد زيموراي عامَ 1877، في موقع لا يبعد عن البحر الأسود. ولأنه كان يهوديًّا في حقبة حافلة بالمذابح المُروِّعة التي ارتُكِبَت على الأراضي الروسية، فقد ولَّى هاربًا إلى الولايات المتحدة، التي وصل إليها ممسكًا بيد خالته، قبل أن يتمّ الخامسة عشرة. لاذ كلاهما بمنزل بعض الأقرباء المقيمين في سيلما، ألاباما. كان إدوارد ل بيرنيز أيضًا ينتمي إلى عائلة من المهاجرين اليهود، ولكنها من طبقة راقية اجتماعيًا واقتصاديًا، زد على ذلك وجود شخصية لامعة بين أفراد العائلة: خاله سيغموند فرويد. اشتركا في الديانة اليهودية، وإن لم يكُن أيٌّ منهما كثير التديّن. أما في ما عدا ذلك، فقد اختلف كلٌّ منهما عن الآخر اختلافًا شديدًا. كان إدوارد ل بيرنيز يفتخر بأنه الأب الشرعي لـ "العلاقات العامة"، ذلك التخصص الذي لا يُعَدّ هو مبتكره، وإن كان هو الذي بلغ به أمداءً عصية على التوقّع، على حساب غواتيمالا، حتى جعل منه السلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الرئيسي في القرن العشرين. تمَّ له ذلك فعلًا، وإن وقع إدوارد ل بيرنيز في مبالغات مَرَضية أحيانًا، مدفوعًا إلى ذلك بمشاعر الولع بالذات. كان أول لقاء بينهما عام 1948، العام الذي شرعا خلاله في العمل معًا. إذ طلب سام زيموراي لقاءه، فاستقبله بيرنيز في المكتب الصغير الذي كان يملكه آنذاك في قلب مانهاتن. ومن المُرجَّح أن ذلك الرجل ضخم الجرم، ذا الثياب الرثة، والذقن غير الحليق، والمعطف الكالح، وحذاء الحقل، الذي لا يلفّ حول عنقه ربطة، لم يترك في أول الأمر سوى أثرًا واهيًا في نفس بيرنيز، صاحب البدلة الأنيقة، والحديث اللبق، وعطور ياردلي، والمسلك الأرستقراطي.
- حاولتُ مطالعة الكتاب الذي ألَّفتَه أنت بعنوان "بروباغاندا"، فلم أفهم منه الكثير. – هكذا استهلَّ زيموراي حديثه إلى أخصائي الدعاية. كان يتحدَّث الإنجليزية بمشقّة، كمن يُشكِّك في كل كلمة يقولها.
- ولكنه كُتِب بلغة في غاية اليسر، في متناول أي شخص أمِّي. – سامحه بيرنيز على ما بدر منه.
- يُحتمَل أن يكون قصورًا من جانبي. – أقرَّ الرجل الضخم، وهو لا يشعر بأدنى أثر للضيق – الحق أنني لستُ قارئًا على الإطلاق. في طفولتي، مررتُ بالمدرسة مرورًا عابرًا، في روسيا، ولم أُتقِن الإنجليزية قطّ، كما يمكنك أن ترى بنفسك. والأمر يزداد سوءًا متى كتبتُ الرسائل، التي تأتي حافلة بالأخطاء الإملائية. تهمّني الأفعال أكثر مما تهمّني الحياة الفكرية.
- حسنًا. في هذه الحالة، لا أدري كيف أستطيع خدمتك يا سيد زيموراي. – قال بيرنيز وهو يهمّ بالنهوض.
- لن أهدر من وقتك الكثير. – قطع حديثه الآخر – أدير شركة تستورد الموز من أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة.
- يونايتد فروت؟ - سأل بيرنيز متفاجئًا، وهو يتفحَّص الزائر صاحب الهيئة الرثة بقدر أكبر من الاهتمام.
- يبدو أن سمعتنا رديئة جدًّا في الولايات المتحدة وجميع أنحاء أمريكا الوسطى، أي البلدان التي نعمل فيها. – تابع زيموراي حديثه، وهو يهزّ كتفَيْه – ويبدو أن حضرتك الشخص القادر على إصلاح هذا الوضع. جئتُ أنصِّبك مدير العلاقات العامة في الشركة. خلاصة القول: انتقي المنصب الأحبّ لنفسك. وحدِّد لنفسك الراتب الذي تراه أيضًا، اختصارًا للوقت.
وهكذا بدأت الصلة التي جمعَت بين هذين الرجلَيْن اللذين يختلف كلٌّ منهما عن الآخر: أخصائي الدعاية المرهف الذي كان يخال نفسه أكاديميًّا ومُفكِّرًا؛ وسام زيموراي الفظّ، الذي صنع نفسه بنفسه، رجل الأعمال المغامر الذي بدأ نشاطه بمُدَّخرات قدرها مئة وخمسون دولار، ثم أقام الشركة التي جعلَته مليونيرًا، وإن لم يشِ مظهره بذلك. لم يكُن هو مُبتكِر الموز، طبعًا، ولكن بفضله صار الموز يُشكِّل الآن جزءًا من النظام الغذائي لملايين الأمريكان، وإن لم يسبق لأحد أن تذوَّق تلك الفاكهة الغريبة في الولايات المتحدة سوى قلة قليلة جدًّا. بل إنها بدأت تكتسب شعبية في أوروبا ومناطق أخرى في العالَم أيضًا. كيف أفلح في ذلك؟ من الصعب الوقوف على ذلك بموضوعية، لأن حياة سام زيموراي قد اختلطَت بالخرافات والأساطير. إذ يبدو رجل الأعمال البدائي المذكور أقرب إلى كتب المغامرات منه إلى عالَم الصناعة الأمريكي، وهو الرجل الأبعد ما يكون عن الزهو، الذي لم يألف الحديث عن حياته قطّ، على عكس بيرنيز.
خلال أسفاره، اكتشف زيموراي الموز في أدغال أمريكا الوسطى. وبحدس مُوفَّق، عرف الفائدة التجارية التي يمكن أن يجنيها من تلك الفاكهة، فبدأ يحملها على متن الزوارق إلى نيو أورليانز وغيرها من المدن الأمريكية. فلاقَت إقبالًا مشهودًا منذ البدء. حتى إن الطلب المتزايد عليها جعله مزارعًا ومُنتِجًا عالميًّا للموز بعد أن كان مُجرَّد تاجر. وكانت تلك بداية يونايتد فروت، الشركة التي مدَّت شباكها عَبْر أنحاء هندوراس وغواتيمالا ونيكاراغوا وسالفادور وكوستاريكا وكولومبيا وعدد من الجزر الكاريبية في مطلع الخمسينيات، والتي كانت تدرّ من الدولارات أكثر مما تدرّه الغالبية العظمى من الشركات في أمريكا، بل وفي سائر أنحاء العالم أيضًا. مما لا شكّ فيه أن تلك الإمبراطورية كانت من صنع رجل واحد: سام زيموراي، ذلك الذي بات العديد من المئات يعتمدون عليه آنذاك.
ولذا كان يعمل من مشرق الشمس إلى مغربها، ويصل الليل بالنهار، مسافرًا عَبْر جميع أنحاء أمريكا الوسطى والكاريبي في ظلّ أوضاع تليق بالأبطال، وينازع أمثاله من المغامرين على الأراضي رميًا بالرصاص وطعنًا بالنصال، ويُضطرّ إلى النوم في عراء الحقول مئات المرات، حيث يعرِّض نفسه لوخزات البعوض الشره، ويسقط مريضًا بحمَّى الملاريا التي كانت تداهمه بين الحين والآخر، ويرشو السلطات، ويخدع المزارعين والسكان الأصليين الجهلة، ويفاوض الطغاة الفاسدين – مُستغِلًّا جشعهم وغباءهم –، أولئك الطغاة الذين يرجع إليهم الفضل في استحواذه على أملاك صارت مساحتها الآن تربو على مساحة بلد أوروبي كبير، وهكذا وفَّر الآلاف من فرص العمل، ومدَّ السكك الحديدية، وافتتح المرافئ، وأوصل الهمجية بالحضارة. أو على الأقل، هكذا كان يزعم سام زيموراي كلّما اضطُرّ إلى الدفاع عن نفسه وصدّ الهجمات التي تلقَّتها يونايتد فروت، – التي اشتهرَت باسم "فروتيرا" (1) وعُرِفَت بلقب "الأخطبوط" في جميع أنحاء أمريكا الوسطى – لم يهاجمه الحاسدون فحسب، بل وحتى الخصوم الأمريكان، الذين لم يسمح لهم يومًا بمنافسة يونايتد فروت منافسةً شريفة بحق، في منطقة احتكر فيها إنتاج الموز وتسويقه على نحو غاشم. ولهذا الغرض، سعى لضمان السيطرة المطلقة على مرفأ بارّيوس، على سبيل المثال – مرفأ غواتيمالا الوحيد المُطِلّ على الكاريبي – فضلًا عن الكهرباء والسكك الحديدية التي كانت تقطع المسافة من المحيط إلى المحيط، وتنتمي إلى شركته أيضًا.
ومع أنهما طرفا نقيض، فلقد شكَّلا معًا فريقًا جيدًا. لا شك أن بيرنيز قد أسهم كثيرًا جدًّا في تحسين الانطباع الذي تركَته الشركة في الولايات المتحدة، وتقديمها بصورة مقبولة لدى الأوساط السياسية العليا في واشنطن، والوصل بينها وبين أصحاب الملايين في بوسطن (ممن يتفاخرون بانتمائهم إلى الطبقة الأرستقراطية). كان قد وصل إلى الدعاية عن طريق غير مباشر، بفضل العلاقة الوثيقة التي جمعَت بينه وبين جميع أطياف الناس، ولا سيما الدبلوماسيين والساسة وأصحاب الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية ورجال الأعمال والمصرفيين الناجحين. كان رجلًا ذكيًّا، ودودًا، في غاية الاجتهاد، من أولى إنجازاته تنظيم جولة المغني الإيطالي الشهير كاروسو في الولايات المتحدة. لقي قبول الناس بأسلوبه المنفتح المرهف، وسلوكه الدمث، وثقافته. وكان يبثّ في النفس شعورًا بأن له من الأهمية والنفوذ أعظم مما يتمتَّع به حقًّا، مع الأخذ في الحسبان أن وجود الدعاية والعلاقات العامة قد سبق ميلاده، بطبيعة الحال. ولكن بيرنيز ارتقى بتلك المهمة التي كانت تستعين بها جميع الشركات، وإن اعتبرَتها أقل شأنًا، حتى صارَت عملية فكرية رفيعة المستوى، تمثِّل شقًّا من علم النفس والاقتصاد والسياسة. كان يلقي المحاضرات والدروس في جامعات مرموقة، وينشر المقالات والكتب، مُقدِّمًا مهنته على أنها الأكثر تمثيلًا للقرن العشرين، ومرادف الحداثة والتقدّم. في كتابه "بروباغاندا" (الصادر عام 1928)، سطر الجملة التنبّؤية الآتية، تلك التي خلَّدَت ذكره لدى الأجيال التالية، بطريقة أو بأخرى: "يُعتبَر التلاعب الواعي الذكي بالعادات المُنظَّمة وآراء الجموع ركنًا مُهمًّا من أركان المجتمع الديمقراطي. وأولئك اللذين يتلاعبون بتلك الآلية المجهولة من آليات المجتمع يؤلِّفون حكومة خفية عن الأعين، تمثِّل السلطة الحقيقية في بلدنا... إن الأقلية الذكية في حاجة إلى استخدام "البروباغاندا" على نحو مُستمِرّ ومنهجي".
وتلك هي الفرضية التي اعتبرها نفرٌ من النقَّاد إنكارًا للديمقراطية في حدّ ذاتها، ثم وجد بيرنيز فرصة سانحة لتطبيقها بقدر كبير من الفعالية في حالة غواتيمالا، بعد الشروع في العمل مستشارًا دعائيًّا لدى يونايتد فروت بعقد من الزمان.
أسهمَت مشورته كثيرًا في تحسين صورة الشركة وضمنَت لها الدعم والنفوذ في عالم السياسية. لم تنشغل شركة "الأخطبوط" يومًا بتقديم عملها البارز في مجالَي الصناعة والتجارة باعتباره شيئًا يعود بالنفع على المجتمع بوجه العموم، ولا سيما في "البلدان الهمجية" حيث تزاول أنشطتها، تلك البلدان التي ساعدَتها الشركة على الخروج من الهمجية – على حدّ قول بيرنيز – عن طريق توفير فرص العمل من أجل آلاف المواطنين، فرفعَت بذلك مستوى معيشتهم، وارتقَت بهم إلى الحداثة، والتقدّم، والقرن العشرين، والحضارة. تمكَّن بيرنيز من إقناع زيموراي بأن تقيم الشركة بعض المدارس على أراضيها، وتستجلب الكهنة الكاثوليك والرعاة البروتستانت إلى مزارعها، وتنشئ عيادات الإسعافات الأولية، وتساهم بأعمال أخرى من هذا القبيل، وتُقدِّم منح الدراسة والسفر للطلَّاب والأساتذة، وهي الأمور التي كان يعلن عنها باعتبارها دليلًا دامغًا على العمل الذي تنجزه الشركة من أجل بلوغ الحداثة. وفي غضون، ذلك سعى إلى الترويج لاستهلاك الموز على الفطور وفي كل ساعة من ساعات اليوم، على اعتباره مُكوِّنًا غذائيًّا لا غنى عنه للصحة، من أجل بناء مواطنين أصحاء رياضيين، وذلك عن طريق مُخطَّط دقيق وضعه بمساعدة العلماء والفنيين. كان هو الذي أحضر المُغنِّية والراقصة البرازيلية كارمِن ميراندا إلى الولايات المتحدة (سنيوريتا تشيكيتا بانانا، صاحبة الاستعراضات والأفلام)، التي لقيت نجاحًا مبهرًا بقبعاتها المُؤلَّفة من سباطات الموز، وروَّجَت لتلك الفاكهة في أغنياتها بفعالية استثنائية، الفاكهة التي صارَت تشكِّل جزءًا من غذاء البيوت الأمريكية، بفضل تلك الجهود الدعائية.
كما أفلح بيرنيز في تقريب يونايتد فروت من عالَم بوسطن الأرستقراطي وأوساط السلطة السياسية، الأمر الذي لم يسبق وخطر على بال سام زيموراي حتى ذلك الوقت. لم تكُن السطوة والنقود هي كل ما يملكه أثرى أثرياء بوسطن، إذ كانت لهم أحكامهم المسبقة أيضًا، أضف إلى ذلك أنهم من المعادين للسامية بوجه العموم. وهكذا لم يسهل على بيرنيز إقناع هنري كابوت لودچ بقبول الانضمام إلى مجلس إدارة يونايتد فروت، على سبيل المثال. كما لم يسهل عليه إقناع الأخوَيْن چون فوستر دالاس وألن دالاس بالموافقة على الانضمام إلى وكلاء الشركة، وهما العضوان في شركة المحاماة المرموقة بنيويورك، سوليڤان وكرومويل. كان بيرنيز يعرف أن المال يفتح كل الأبواب. حتى الأحكام المسبقة العنصرية لا تصمد أمام المال. وهكذا أفلح في توطيد هذه العلاقة الصعبة، عقب ما عُرِف باسم ثورة أكتوبر التي اندلعَت في غواتيمالا عام 1944، حين بدأت يونايتد فروت تشعر بالخطر يحدق بها. في وقت لاحق، ثبتَت الفائدة الكبرى لأفكار بيرنيز لدى الإطاحة بـ"حكومة غواتيمالا الشيوعية" المزعومة، واستبدال حكومة ديمقراطية بها، أي حكومة أكثر وداعةً ومراعاةً لمصالح الشركة.
بدأت تدقّ نواقيس الخطر إبان حكم خوان خوسيه أريبالو (1945 - 1950). ليس لأن البروفسور أريبالو – الذي دافع عن مذهب "اشتراكي روحاني" مبهم في مثاليته – قد تعدَّى على مصالح يونايتد فروت، بل لأنه سمح بتمرير قانون العمل الذي أتاح للعمال والمزارعين إنشاء النقابات والانضمام إليها، الشيء الذي لم يُسمَح به على أراضي الشركة حتى ذلك الوقت. لذلك بدأ زيموراي وغيره من أعضاء مجلس الإدارة يتوجَّسون خيفة. وفي اجتماع مجلس الإدارة المحتدم الذي عُقِد في بوسطن، جرى الاتفاق على سفر إدوارد ل بيرنيز إلى غواتيمالا، لتقييم الوضع والفرص المستقبلية، والوقوف على مدى الخطورة التي تمثِّلها الحوادث الجارية على الشركة، في عهد أول حكومة تصل إلى الحكم عن طريق انتخابات حرة بحق في تاريخ ذلك البلد.
أمضى ل بيرنيز أسبوعَيْن في غواتيمالا، حيث نزل بفندق پاناميريكان، في وسط المدينة، على بعد خطى قليلة من قصر الحكم. وبالاستعانة بالمترجمين، نظرًا لجهله باللغة الإسبانية، التقى بمُلَّاك أراضٍ وعسكريين ومصرفيين ونوَّاب في المجلس ورجال شرطة وأجانب استقرّ بهم المقام في البلد منذ أعوام وقادة نقابيين وصحافيين. وبطبيعة الحال، التقى بموظفي سفارة الولايات المتحدة ومديري شركة يونايتد فروت. وعلى الرغم من المعاناة الشديدة التي تجشَّمها تحت وطأة القيظ ولدغات البعوض، أنجز مهمته على ما يُرام.
وخلال اجتماع جديد، عقده مجلس الإدارة في بوسطن، قدَّم بيرنيز انطباعه الشخصي مستعرضًا مجريات الأحداث في غواتيمالا من وجهة نظره. وبالاستناد إلى ملاحظاته، أعدَّ التقرير بسلاسة تليق بمحترف بارع، بلا أدنى أثر للرياء:
"إن اتجاه غواتيمالا نحو الشيوعية، وتحوّلها إلى مهبط يتسلَّل الاتحاد السوفييتي من خلاله إلى أمريكا الوسطى ويهدِّد قناة بنما، لا يعدو أن يكون خطرًا بعيدًا، بل ويسعني القول إنه خطر معدوم في الوقت الراهن"، هكذا قال مُؤكِّدًا. "إن قلة قليلة جدًّا في غواتيمالا تعلم ما الماركسية وما الشيوعية. حتى تلك الثلة من الناس الذين يطلقون على أنفسهم شيوعيين، مُؤسِّسو مدرسة كلاريداد الساعية إلى نشر الأفكار الثورية، لا يعلمون ما ذاك. إن هذا الخطر يفتقر إلى الواقعية. وعلى الرغم من ذلك، فالاعتقاد بوجوده يصبّ في مصلحتنا، ولا سيما في الولايات المتحدة. أما الخطر الحقيقي، فله طبيعة أخرى. لقد تحدَّثتُ إلى الرئيس أريبالو شخصيًّا، وإلى أقرب معاونيه. إن أريبالو يعادي الشيوعية بقدر ما تفعلون، وبقدر ما أعاديها أنا نفسي، والدليل إصرار الرئيس وأنصاره على حظر وجود الأحزاب السياسية التي تجمعها صلات دولية بجهات في الخارج بمقتضى دستور غواتيمالا الجديد. أضف إلى ذلك التصريح الذي أدلوا به في عدة مناسبات ومفاده أن "الشيوعية كبرى الأخطار التي تواجها الأنظمة الديمقراطية". فضلًا عن إقفال أبواب مدرسة كلاريداد، ونفي مُؤسِّسيها. ولكن حبهم المفرط للديمقراطية يُمثِّل تهديدًا جادًّا لـيونايتد فروت، مهما بدا الأمر لكم من التناقض. وذلك شيء يُستحسَن الإلمام به أيها السادة، لا الإفصاح عنه".
ثم ابتسم ورشق جميع أعضاء مجلس الإدارة بنظرة مسرحية، فابتسم بعضهم ابتسامة مهذبة. وبعد هنيهة من السكوت، استطرد بيرنيز قائلًا: "يودّ أريبالو لو جعل من غواتيمالا ديمقراطية، كالولايات المتحدة، البلد الذي يشعر نحوه بالإعجاب ويُعِدّه نموذجًا يُحتذَى به. غير أن الحالمين يُمثِّلون خطورة، كالعادة، ودكتور أريبالو يُمثِّل خطورة بهذا المعنى. لا توجد أدنى إمكانية لتحقيق مشروعه. كيف يمكن تحويل بلد كهذا إلى ديمقراطية حديثة؟ بلد يبلغ تعداد سكانه ثلاثة ملايين نسمة، سبعون بالمئة منهم هنود أمّيون تركوا الوثنية منذ عهد قريب، أو ما زالوا يعتنقونها، حيث يُوجَد ثلاثة أو أربعة من كهنة التشامان(2) عن كل طبيب. بينما الأقلية البيضاء، المُؤلَّفة من الإقطاعيين العنصريين الاستغلاليين، تزدري الهنود وتعاملهم كالعبيد. حتى العسكريون الذين تحدَّثتُ إليهم يبدو وكأنهم يعيشون في أوج القرن التاسع عشر، وربما انقلبوا على النظام الحاكم في أي لحظة. لقد تعرَّض الرئيس أريبالو لعدَّة تمرّدات عسكرية، بَيْد أنه تمكَّن من سحقها. ومع أن الجهود التي يبذلها في سبيل تحويل بلده إلى ديمقراطية حديثة تبدو لي غير مجدية، فكل تقدّم يحرزه في تلك الساحة قد يكبِّدنا خسائر فادحة، دعونا لا نخدع أنفسنا".
"لعلّكم لاحظتم، أليس كذلك؟"، استطرد بعد الصمت الطويل الذي اغتنمه حتى يرشف بضع رشفات من الماء. "إليكم بعض الأمثلة، لقد مرَّر أريبالو قانون عمل يسمح بإنشاء النقابات في الشركات والمزارع، ويُصرِّح للعمَّال والمزارعين بالانضمام إليها. كما استكتب قانونًا لمنع الاحتكار، هو نسخة طبق الأصل من القانون المعمول به في الولايات المتحدة. لكم أن تتخيَّلوا ما قد يعنيه لـيونايتد فروت تطبيق إجراءات من هذا القبيل لضمان المنافسة الحرة: إن لم يكُن الإفلاس، فهو الهبوط الحاد في الأرباح، تلك التي لا نجنيها بمُجرَّد الكفاءة التي نعمل بها، والمساعي التي نبذلها، والنفقات التي نتكبَّدها لمكافحة الأوبئة، وتطهير الأراضي التي نكتسبها في الأدغال بهدف انتاج الموز، بل ونحقِّقها أيضًا بفضل الاحتكار الذي يُبقِي المنافسين المحتملين بعيدًا عن أراضينا، وبفضل الأوضاع الزاخرة بالامتيازات الحقيقية التي نعمل في ظلّها، إذ نُعفَى من الضرائب، ونعمل في غياب النقابات والمجازفات والأخطار التي قد يجرّها كل هذا. المشكلة لا تقتصر على غواتيمالا، فهي تُمثِّل جزءًا صغيرًا من العالَم الذي نزاول فيه عملنا. بل إن المشكلة تكمن في انتقال العدوى إلى باقي بلدان أمريكا الوسطى وكولومبيا، لو أثبتَت فكرة التحوّل إلى "ديمقراطيات حديثة" جدواها في هذه البلدان. وعندئذ، تُضطَرّ يونايتد فروت إلى الوقوف في مواجهة النقابات، والمنافسة على مستوى دولي، وسداد الضرائب، وتوفير التأمين الصحي، ومعاشات التقاعد للعمَّال وذويهم، أضف إلى ذلك أن الشركة سوف تغدو هدفًا للكراهية والحسد الذي يحوم حول الشركات الناجحة الفعَّالة في البلدان الفقيرة دائمًا، دع عنك شركات الولايات المتحدة. إن الخطر، أيها السادة، يكمن في القدوة السيئة. لا في الشيوعية، وإنما في تحوّل غواتيمالا إلى الديمقراطية. الأمر الذي يُرجَّح ألَّا يتحقَّق، غير أن كل خطوة في هذا الاتجاه تعني تراجعًا نتكبَّده وخسائر نُمنَى بها".
سكت وجعل يتفحَّص نظرات أعضاء مجلس الإدارة الحائرة أو المستفهمة. أما سام زيموراي، الوحيد الذي لم يلفّ حول عنقه ربطة، وانفرد بمظهر يفتقر إلى الرسمية دونًا عن باقي السادة المُتأنِّقين الذين جلسوا معه إلى الطاولة المُمتدَّة نفسها، فقال:
- حسنًا، ذلك هو التشخيص. ولكن ما العلاج الذي فيه شفاء المرض؟
- وددتُ لو أسمح لكم بالتقاط أنفاسكم قبل متابعة الحديث. – قال بيرنيز مازحًا، وهو يرشف رشفة أخرى من الماء – الآن أنتقل إلى شقِّ العلاج يا سام. سيكون طويل الأمد، مُعقَّدًا، باهظ التكلفة. ولكن من شأنه أن يجتثّ الشر من الجذور. وربما أعطى يونايتد فروت خمسين عامًا أخرى من التوسّع والأرباح والهدوء.
كان إدوارد ل بيرنيز يعرف ما هو قائل. فالعلاج يكمن في التأثير على الحكومة والرأي العام في الولايات المتحدة بالتزامن. فلا الحكومة ولا الرأي العام يملكان أدنى فكرة عن وجود غواتيمالا، دع عنك معرفتهما بأن هذا البلد يُمثِّل مشكلة. الأمر الذي يُعَدّ إيجابيًّا، من حيث المبدأ. "نحن الذين يجدر بنا تنبيه الحكومة والرأي العام إلى أمر غواتيمالا، على نحو كفيل بإقناعهما بأن المشكلة تبلغ من الجدية والخطورة حدًّا يستوجب القضاء عليها فورًا. كيف؟ عن طريق العمل بخفَّة وتحيّن الفرص السانحة وترتيب الأمور لدفع الرأي العام – الذي يُعَدّ حاسمًا في الأنظمة الديمقراطية – إلى الضغط على الحكومة للتحرّك ودرء ذلك التهديد الخطير. أي تهديد؟ التهديد الذي أوضحتُ لكم أنه لا يكمن في غواتيمالا: حصان طروادة الذي يتسلَّل من خلاله الاتحاد السوفييتي إلى باحة الولايات المتحدة الخلفية. كيف السبيل إلى إقناع الرأي العام بأن غواتيمالا آخذة في التحوّل إلى بلد تُعَدّ الشيوعية فيه أمر واقع، وربما صار أول تابع للاتحاد السوفييتي في العالَم الجديد، ما لم تتحرَّك واشنطن بهمَّة؟ عن طريق الصحافة والإذاعة والتلفزيون، مصدر المعلومات والتوجيهات الرئيسي لدى المواطنين، في بلد حرٍّ كانوا أم في بلد مُستعبَد. لا بدّ لنا من فتح عيون الصحافة على الخطر القائم على مسافة يمكن قطعها في ما يقلّ عن الساعتَيْن جوًّا من الولايات المتحدة، وعلى بعد خطوة واحدة من قناة بنما.
من مصلحتنا أن يجري كل شيء بعفوية، لا بتخطيط ولا بإرشاد من أحد، دع عنك أن يكون بتخطيط وبإرشاد منا، ونحن أصحاب المصلحة. لا يجب أن تكون الصحافة الجمهورية اليمينية في الولايات المتحدة هي مصدر الفكرة الزاعمة بأن غواتيمالا على وشك السقوط بين أيدي السوفييت، وإنما بالأحرى الصحافة التقدّمية، تلك التي يطالعها وينصت إليها الديمقراطيون، أي الوسط واليسار. فتلك هي التي تصل إلى الغالبية العظمى. ولإضفاء قدر أكبر من المصداقية، يجب أن يكون الأمر برمّته من صنع الصحافة الليبرالية".
قاطعه سام زيموراي سائلًا:
- وماذا نحن فاعلون لإقناع تلك الصحافة الليبرالية، وهي محض خراء؟
ابتسم بيرنيز وسكَت مُجدَّدًا. وكالمُمثِّل المُتمرِّس، أجال عينَيْه في جميع أعضاء مجلس الإدارة بنظرة مهيبة:
- من أجل هذا الغرض وُجِد مَلِك العلاقات العامة، أعني أنا شخصيًّا! – قال مازحًا، بلا أدنى أثر للتواضع، وكأنه يهدر وقته بتذكير ذلك الجمع من السادة بأن الأرض كروية – أيها السادة، من أجل هذا الغرض لديَّ الكثير من الصداقات التي تجمعني بأصحاب الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية ورؤسائها في الولايات المتحدة. تقتضي الحاجة منا العمل بسرية ومهارة لئلَّا تشعر وسائل الإعلام بأنها عرضة للاستغلال. يجب أن يجري كل شيء بالتلقائية التي تصنع بها الطبيعة تحوّلاتها المدهشة، ويجب أن يبدو الأمر وكأنه "سبق صحافي" كشفَته الصحافة الحرة التقدّمية وأماطَت عنه اللثام أمام العالَم. لا بد من مداعبة غرور الصحافيين بحنان، ذلك الغرور المُتضخِّم عادةً.
فرغ بيرنيز مما يقول، فعاد سام زيموراي إلى طلب الإذن بالكلام:
- أرجوك، لا تقُل لنا كم سيكلِّفنا الأمر الذي وصفته بكل هذا التفصيل، وإلَّا كانت الصدمات أكثر مما يحتمله يوم واحد.
- لن أقول شيئًا بهذا الشأن في الوقت الراهن. – أومأ بيرنيز – ولكن ما يهمّ أن تذكروا أمرًا واحدًا: لسوف تربح الشركة أكثر كثيرًا من كل ما يمكن إنفاقه على هذه العملية لو استطعنا الحيلولة دون تحوّل غواتيمالا إلى الديمقراطية الحديثة التي يحلم بها الرئيس أريبالو طوال نصف قرن آخر من الزمان.
وهكذا نُفِّذ بالحرف الواحد كل ما أدلى به إدوارد ل بيرنيز في تلك الجلسة المشهودة التي حضرها أعضاء مجلس إدارة يونايتد فروت في بوسطن. ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، فلقد أكَّد ذلك على الفرضية التي طرحها بيرنيز، والتي مفادها أن القرن العشرين سوف يكون هو القرن الذي تتجلَّى فيه الدعاية بوصفها أداة أساسية من أدوات السلطة والتلاعب بالرأي العام في المجتمعات الديمقراطية والاستبدادية على حدٍّ سواء.
رويدًا رويدًا – في الفترة الأخيرة من عهد حكومة خوان خوسيه أريبالو، ولا سيما في عهد حكومة الكولونيل خاكوبو أربينس غوسمان – بدأت غواتيمالا تظهر في صحف الولايات المتحدة على غير العادة، في تقارير منشورة على صفحات نيويورك تايمز أو واشنطن بوست أو التايم الأسبوعي، حيث كان يُشار إلى الخطر المتنامي الذي يواجه العالَم الحرّ، والمُتمثِّل في النفوذ الذي يكتسبه الاتحاد السوفييتي في البلد من خلال تلك الحكومة التي أرادت أن تبدو بمظهر ديمقراطي، وإن كانت في حقيقة الأمر مُخترَقة من جانب الشيوعيين، رفاق السفر(3)، الحمقى النافعين، أولئك الذين اتَّخذوا إجراءات تخالف الشرعية ورابطة الدول الأمريكية والملكية الخاصة والسوق الحرة، وتحرِّض على صراع الطبقات وكراهية التقسيم الاجتماعي ومعاداة الشركات الخاصة.
وبفضل مساعي بيرنيز الحثيثة وعلاقاته، بدأت صحف ومجلات من الولايات المتحدة في إيفاد المراسلين إلى غواتيمالا، وإن لم يسبق لها قطّ أن اهتمَّت بغواتيمالا ولا بأمريكا الوسطى ولا حتى بأمريكا اللاتينية. كان المراسلون ينزلون بفندق پاناميريكان، الذي كادَت حانته تغدو مركزًا صحافيًّا عالميًّا، حيث تلقّوا ملفات مُوثَّقة بعناية، بما ورد فيها من وقائع تُؤكِّد على تلك المُؤشِّرات – تشكيل النقابات باعتباره سلاحًا للمواجهة، وتخريب الشركات الخاصة بالتدريج –، وهناك استطاع المراسلون إجراء مقابلات رتَّبها بيرنيز من أجلهم أو أشار عليهم بها، مقابلات جمعَتهم بمُلَّاك أراضٍ ورجال أعمال وكهنة (من ضمنهم رئيس الأساقفة) وصحافيين وقيادات سياسية من المعارضة ورعاة ومحترفين أكَّدوا بمعلومات مسهبة على تلك المخاوف الزاعمة بتحوّل البلد إلى تابع سوفييتي رويدًا رويدًا، تابع تسعى الشيوعية الدولية من خلاله إلى الحدّ من نفوذ الولايات المتحدة وتعطيل مصالحها في كل أرجاء أمريكا اللاتينية.
وابتداءً من لحظة بعينها – لمَّا شرعَت حكومة خاكوبو أربينس في تنفيذ الإصلاح الزراعي في البلد على وجه التحديد – لم تعُد الحاجة تدعو إلى سعي بيرنيز لدى أصحاب الصحف والمجلات ورؤساء تحريرها: إذ عمّ حينذاك شعور حقيقي بالقلق في الأوساط السياسية والتجارية والثقافية بالولايات المتحدة – مع الأخذ في الاعتبار أنها كانت حقبة الحرب الباردة – وحتى وسائل الإعلام عجَّلَت بإيفاد المراسلين للتحقّق من وضع تلك الأمة الصغيرة التي اخترقَتها الشيوعية على أرض الواقع. وكان أوضح تجليات ما يجري هو المنشور الذي أصدره أحد مكاتب يونايتد پرِس بقلم الصحافي البريطاني كينيث دي كورسي، معلنًا أن الاتحاد السوفييتي قد وطَّن النية على بناء قاعدة غواصات في غواتيمالا. حتى لايف ماغازين، وهيرالد تريبيون، وإيڤنينغ ستاندارد اللندنية، وهارپرز ماغازين، وشيكاغو تريبيون، ومجلة بيسيون الصادرة باللغة الإسبانية، وكريستشان ساينس مونيتور وغيرها من الإصدارات، كلها أفرد صفحات كثيرة ليثبت من خلال الوقائع والشهادات المُحدَّدة أن غواتيمالا في سبيلها إلى الرضوخ للشيوعية والاتحاد السوفييتي بالتدريج. لم تكُن مؤامرة: بل إن "البروباغاندا" فرضَت على الواقع خيالًا شيّقًا، فاستند الصحافيون الأمريكان غير المُؤهَّلين إلى ذلك الخيال في كتابة تقاريرهم، من دون أن تدرك الغالبية العظمى منهم أنهم مُجرَّد دمى يتلاعب بها مُحرِّك عرائس عبقري. وهكذا يمكن تفسير ما أقدمَت عليه شخصية مرموقة من اليسار الليبرالي مثل فلورا لويس عندما أفردَت مديحًا مبالغًا فيه لسفير الولايات المتحدة لدى غواتيمالا، چون إميل پيوريفوي. ومما ساهم في تحقيق الخيال المذكور أنها كانت أسوأ سنوات المكارثية(4) والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
مات سام زيموراي في نوفمبر من عام 1961 وهو على مشارف الرابعة والثمانين من العمر، بعد أن اعتزل العمل، واستقرّ به المقام في لويزيانا، مُثقلًا بالملايين. مات وهو لم يستوعب بعد أن المُخطَّط الذي رسمه إدوارد ل بيرنيز في اجتماع مجلس إدارة يونايتد فروت، الذي عُقِد في بوسطن قديمًا، قد نُفِّذ بهذا القدر من الدقة. ولم يرتَب حتى في أن شركة "فروتيرا"، على الرغم من انتصارها في تلك الحرب، قد بدأت في التفكّك، وأن رئيسها سوف ينتحر بعد مضي أعوام قلائل، وأن الشركة سوف تختفي، ولن يبقى منها إلَّا ذكريات أليمة مُروِّعة.
هوامش:
(1) فروتيرا "Frutera": وتعني بالإسبانية بائعة الفاكهة أو صاحبة الفاكهة. (المترجم)
(2) التشامانية: معتقدات وممارسات تقليدية مقترنة بعالَم الأرواح. (المترجم)
(3) رفاق السفر أو رفاق الدرب: لقب أُطلِق على أولئك الذين يبدون ميلًا أو تعاطفًا نحو منظمة بعينها، من دون الانتساب إليها، ولا سيما في معرض الحديث عن الشيوعية. (المترجم)
(4) المكارثية: الاتهام بالتخريب والخيانة من دون مراعاة تقديم الأدلَّة. وسُمِّيَت بهذا الاسم نسبةً إلى عضو الكونجرس الأمريكي جوزيف ريموند مكارثي (1908 - 1958). (المترجم).
اقرأ/ي أيضًا:
رواية "زمن عصيب".. صناعة البؤس
رواية "حرب نهاية العالم" لماريو بارغاس يوسا.. لماذا تحدث الثورات؟