لغتنا في المدن مستعجلة ومتوترة. نتعلم خلال عيشنا في الزحمة أن نكون أكثر اختصارًا، وأضيق وقتًا. هذه الفتاة جميلة، وهذا يكفي لنفكر بإقامة علاقة عابرة معها، ذلك أننا لا نملك الوقت لمعرفتها حقًا. ما نريده حقًا هو ذيل العلاقات. ما يقع دومًا قبل النهايات بلحظة واحدة. هذا الرجل يبدو متجهمًا، والأرجح أنه طُرد من عمله، ومن الأفضل ألا نفتح حديثًا معه أو نسأله عن أحواله. لا وقت فائض لننفقه من أجل أي شيء. لكن هذه المشاهدات التي تقع حوادثها في المدن تبقى أفضل حالًا، وأكثر مدعاةً للتواصل مع الناس من أحوالنا التي نعيشها حقًا.
الفضاء العام الذي كتب مئات الفلاسفة وعلماء الاجتماع في ضرورته الملحة لأي اجتماع، لا يقدّم لنا اليوم أكثر من وجبات غضب متكررة
في المدن المكتظة نحن نعيش في قواقع معدنية وإسمنتية. نخرج من المنزل المسوّر بألف سور وسور إلى موقف السيارة المخصص لسيارات سكان المبنى وآلياتهم، ونعبر من جهة في المدينة إلى جهة أخرى ونحن نقود قوقعة معدنية. خلال هذا الوقت الذي نكون فيه داخل حصوننا المتحركة، لا نقيم أي صلات مع الآخرين، إلا صلات عداوة وغضب وكراهية. كل السائقين الذين يقبعون في قواقعهم المعدنية لا يفعلون سوى تأخيرنا عن الوصول إلى مقاصدنا. وكل الصلات التي نقيمها معهم لا تتعدى الشتيمة المتكررة والغضب المكبوت الذي لا يجد تصريفًا من أي نوع.
هذا هو الفضاء العام الذي تتيحه المدن اليوم. الفضاء العام الذي كتب مئات الفلاسفة وعلماء الاجتماع في ضرورته الملحة لأي اجتماع، لا يقدّم لنا اليوم أكثر من وجبات غضب متكررة. غضب يكاد لشدة تكراره يدفعنا لتمني زوال الآخرين واختفائهم عن نواظرنا.
وفي الأثناء، فإن اللغة التي نجيدها بوصفها أداة تواصل مع الآخرين، تخبو شيئًا فشيئًا ويومًا بعد يوم إلى حد أننا بتنا لا نستخدمها تقريبًا إلا حين يكون الموظف المولج بتلقي طلباتنا في المقهى أو المطعم جاهزًا للاستماع إلى مطالبنا. وعلينا أن نختار من القائمة ما نظن أنه يناسبنا. وهذه قوائم معدة سلفًا كقوانين السير. فلا تخرج من مجال الإشارات إلى متن اللغة على أي نحو من الأنحاء.
ما نفتقده في المدن هو اللسان. ألسنتنا التي بوسعها أن تمدح وتواسي وتتغزل وتتقرب هي الغائبة في هذه المدن. اللغة التي بين حروفها تنشأ هوياتنا الفعلية، تبدو اليوم كما لو أنها تعيش لحظة احتضار طويلة. كما لو أن نشيد الفردية الذي، لطالما تغنت به الحداثات، تحول بين أيدينا إلى نشيد للتوحش.
اللغة التي بين حروفها تنشأ هوياتنا الفعلية تبدو اليوم كما لو أنها تعيش لحظة احتضار طويلة
لم نعد اجتماعيين، والحديث عن موت المجتمع، ليس جديدًا، لكن الإشارة في هذا المقام، لا تتعلق بالأبحاث التي تفترض أن المجتمعات المبنية على جغرافيا موحدة وقوانين مرعية الإجراء هي التي تموت. ما يموت حقًا هو شعورنا بأن الناس التي تحيط بنا ما زالت تسكن معنا على المركب نفسه الذي تهدده العواصف. لقد بنى كل واحد منا مركبه الخاص الذي لا يتسع لغيره. ولم يعد الكوكب متسعًا لأكثر من شخص واحد، وجميعنا نحارب لنكون هذا الشخص.