هناك جلسة نقاشية شاركتُ فيها مؤخرًا حول العنف الجنسي في السياقات الفلسطينية، وكانت أطراف النقاش في الجلسة مجموعة من النساء الفلسطينيات من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية والطبقات الاجتماعية، لفتَني في هذه الجلسة آراء فئة كبيرة من أولئك النساء حول العنف الجنسي الممارَس من قبل الاحتلال الإسرائيلي ضدّ النساء الفلسطينيات، فقد رأتْ فئة كبيرة منهنّ بأنّ الاحتلال إذا ما وضع في مقارنة مع ممارسات الرجال ضمن النظام الأبوي البطريركي الحاكم للمجتمع الفلسطيني والمتحكّم فيه، فإنّ ممارساته لهذا الشكل من أشكال العنف هي ممارسات قليلة، ولا تكاد تُذكَر.
الفكرة التي لاحت لي بعد تأمّلي لآراء هؤلاء المجموعة من النساء بأنّ العنف الجنسي الذي يُمارِسه المستعمِر على المستعمَر في السياقات الاستعمارية، لا يكون بالضرورة عنفًا جنسيًا ظاهرًا، ولا يتبدى في أشكال فاقعة وواضحة وصريحة كالاغتصاب أو التحرّش الجنسي المباشر، فهو يكون غالبًا عنفًا جنسيًا مضمرًا وكامنًا في طبيعة البنية الاستعمارية للمستعمِر وفي كيفية نظرته للمستعمَر وتعاملاته معه.
هناك العديد من أشكال العنف الجنسي الظاهر والمباشر الذي يُمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضدّ النساء الفلسطينيات، مثل اغتصابهنّ في السجون الإسرائيلية
وفعلًا، فإنّ هناك العديد من أشكال العنف الجنسي الظاهر والمباشر الذي يُمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضدّ النساء الفلسطينيات، مثل اغتصابهنّ في السجون الإسرائيلية (ما روته الأسيرة السابقة عائشة عودة في مذكراتها السجنية عن حادثة اغتصابها بعصا)، أو التحرّش الجنسي بهنّ (ما ترويه شهادات العديد من النساء اللواتي تُجبرهنّ الظروف الاقتصادية على العمل في المستوطنات).
وبعيدًا عن أشكال العنف الجنسي المباشر فإنّ هناك الكثير من أشكال العنف الجنسي المضمَر والخفي والكامِن في طبيعة البنية الاستعمارية للاحتلال الإسرائيلي، وفي كيفية نظرته للنساء الفلسطينيات وشكل تعاملاته معهنّ، ومن هذه الأشكال كيفية تصوير أِجسادهنّ في خطاب المحتلّ الإسرائيلي، حيثُ تُورِد الباحثة شهد وادي في بحثها حول "جسد المرأة الفلسطينية: ما بين البطريركية والكولونيالية" بأنّ الاحتلال ينظر نظرة فوقية إلى جسد المرأة الفلسطينية ويتعاطى معه باعتباره جسدًا مجازًا يُمثّل فلسطين كلّها، ففلسطين المحتلة في هذا الخطاب هي المرأة وإسرائيل هي الرجل، أي أنّ المحتلّ الكولونيالي هو البطريركي. وبحسب وادي فإنّ فلسطين تَظهر في خطاب المحتلّ الإسرائيلي "كامرأة (تُقرأ: ضعيفة) وتحتاج إلى عون ودفاع الرجل (إسرائيل) ولكنها عندما تثور تفقد (صفاتها الأنثوية) لتصبح غير مرغوب فيها".
ومن تلكَ الأشكال كذلك نظرة الاحتلال الإسرائيلي إلى النساء الفلسطينيات وأجسادهنّ الخصبة باعتبارهنّ يمثلنَ سلاح حرب وتهديدًا ديموغرافيًا لإسرائيل وأمنها، واعتبار أبناءهنّ الذين يقمنَ بتربيتهنّ مجردّ "ثعابين صغيرة"، كما عبّرت إحدى العضوات البارزات في حزب يمينا اليميني المتطرّف ذات مرة، وإذا كانت العديد من الأنظمة الاستعمارية الأوروبية السابقة أقامت سرديات استعمارها للأراضي التي استعمرتها واحتلتها تحت دعاوى إنقاذ النساء في تلكَ الأراضي أو جعلهنّ أكثر حداثة أو تحريرهنّ، فإنّ النظام الاستعماري الإسرائيلي لم يُدخِل ضمن سردياته الخطابية ما يجعل من النساء الفلسطينيات غريبات عن ثقافتهنّ، فلم يُعلِن أنّه يطمح إلى إنقاذهنّ وجعلهنّ أكثر تحررًا وحداثة، وإنّما أراد بالدرجة الأولى تصفيتهنّ وموتهنّ.
إنّ هذه الرغبة الكامنة في النظام الاستعماري الإسرائيلي في رؤية النساء الفلسطينيات كميتات، هي رغبة تتجلى بشكل واضح فيما تُورده الباحثة وادي في بحثها السابق حول تفصيلات العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون الأول/ديسمبر عام 2008، فمما تذكره ذلك الانتشار الواسع في الإعلام العالمي والإسرائيلي لصور "تيشرتات" خاصة بوحدة القناصة في الجيش الإسرائيلي، وهي "تيشرتات" من النوع الذي يقوم الجنود باختيار صورها وتصميمها حسب الطلب وإرسالها إلى إحدى المطابع، حيثُ كانت الصورة الأكثر انتشارًا هي لـ"تيشرت" يقوم بتصوير امرأة فلسطينية محجّبة وحامل، تحمل بندقية في يدها فيما تكون واقعة في مرمى هدف القناص تمامًا، وتكون بندقيته موجهة إليها ناحية الرحم، فيما كتبَ تحت صورة المرأة والقناص عبارة "قتيلان بطلقة واحدة".
فبحسب وادي "إنّ المرأة في هذه الصورة بحملها وحجابها تُشكّل خطرًا غامضًا وغير معروف.. فحبل البندقية في تلك الرسمة، هو أيضًا الحبل السري الذي يربط السلاح برحمها، والذي هو بحدّ ذاته مركز الصراع". وتضيف وادي "يُلاحظ أنّ معظم الـ"تيشرتات" التي نُشرت تنظر إلى النساء وأجسادهنّ كبؤرة للمعركة.. في صورة أخرى تَظهر امرأة فلسطينية تبكي وبيدها لعبة كتب عليها: "على جميع الأمهات أن يعرفنَ بأنّ مصير أبناءهنّ في يدي"، فالأمومة وتكاثر الشعب الفلسطيني يظهران كأخطار أساسية في الصراع.
إنّ كيفية النظرة الاستعمارية الإسرائيلية إلى جسد المرأة الفلسطينية، والتعامل معه باعتباره جسدًا يستحقّ الموت والقتل والوأد حتى؛ لهو الدليل الأكبر على كثافة العنف الجنسي المضمَر ضدّ النساء الفلسطينيات داخل البنية الاستعمارية للنظام الاستعماري الإسرائيلي، فالعنف الجنسي الإسرائيلي وإن كان لا يظهر دائمًا في أشكال واضحة وظاهرة، إلا أنّه يتبدى دائمًا وأبدًا في أشكال كامنة وخفية تَشعر بها المرأة الفلسطينية تطالها وتطال جسدها في كثير من الأحيان، تَشعر به أثناء مرورها للتفتيش على الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وتُحسّ بوطأته أثناء استخدام جسدها في أساليب التحقيق في السجون الإسرائيلية، عبر التهديد بالتعرَض له بالانتهاك والاغتصاب لإجبار الرجال الأسرى على الاعتراف.