لطالما تميزت ردود فعل الأفراد في المجتمعات، التي تجد نفسها في أزمة وجودية كبرى، بالتأرجح بين الانفتاح على الآخرين بقصد التشارك معهم في سبل النجاة الممكنة، انطلاقا من حقيقة الاعتراف بكرامة الذات الإنسانية، التي تجعل من كل إنسان ذاتًا متفردة تستحق الحماية والنجاة، وبين الانغلاق على الذات ورفعها إلى مستوى الذات الجديرة بالحياة دون غيرها، لاعتبارات كالمهنة والجاه الاجتماعي والعرق، لا تمت لمفهوم كرامة الإنسان وحقوقه بصلة.
العمال الوافدون وفق تصور حياة الفهد في مقام الغرباء أو العبيد، الذين لا يمكن لهم الارتقاء إلى مرتبة الموالي أو المواطنين في الدولة الحديثة
على صعيد التحدي التي جابه به الناس كورونا القاتل، لم تتوقف وسائل الميديا عن إمطارنا بعشرات القصص التي أظهرت لدى الناس أفضل ما عندهم. الأخبار المتعلقة بتناوب سكان حي ما على طرق أدواتهم المنزلية في وسيلة حميمة لكسر العزلة الاجتماعية التي فرضها عليهم الزائر القاتل. الصوت الشجي لأحد مغنيي الأوبرا وهو يعلن ولادة العالم من جديد عبر الأمل. في المنظر الذي يقطع نياط القلب لبعض من عاملي القطاع الطبي الإيطالي، وهم يجاهدون الحصول على بعض ساعات من النوم إلى جوار أجهزتهم الطبية. إلى خبر عائلة رشو السورية وهي تتبرع بخياطة 360 قناعًا قماشيًا لمشفى بودستات في برلين. القائمة القصيرة لبعض نجوم الرياضة وهم يتبرعون بجزء من إيراداتهم لصالح المتضريين من وباء كورونا.
اقرأ/ي أيضًا: سيناريو شخصي لنهاية العالم
في الأسوأ الإنساني، التشيك تستولي على بعض المعدات الطبية المرسلة إلى إيطاليا، التي تعاني من تفشي المرض على نحو كارثي. أحد ممثلي السياسيين اللبنانيين الذين لا يتوانوا عن الاستثمار بالأزمات يلتقط صورة لنفسه مع طبق بيض بمعية محتاج. معزل الحجر الصحي في قرية الدوير السورية يفتقد إلى كل ما هو صحي، بما فيه الصابون اللازم لغسل اليدين. مصلي يحاجج السلطات الأردنية بصوابية وشرعية منع صلاة الجماعة في الجامع، مع أن صلاته وراء الإمام لم تمنعه من السطو على حصة أخته من الميراث.
في مداخلتها الهاتفية مع برنامج "أزمة وتعدي"، دعت الفنانة الكويتية حياة الفهد السلطات الحكومية في بلدها أن تحصر تقديم عنايتها ورعايتها في زمن الكورونا على المقيمين (المواطنين) من أبناء ديرتها، فيما طالبت الحكومة ذاتها برمي كل وافد (عامل أجنبي) لا يستجيب لندائها في مغادرة البلاد طوعًا، عبر المسارعة لرميه في الصحراء المهلكة، جزاء على جحوده في فهم حاجة الإمارة للأمان.
يتقاطع التصور العفوي الذي تقدمت به الفهد، لناحية تفضيل حياة المقيمين أو أبناء الديرة على حياة غيرهم من الوافدين أو الغرباء، مع الجذور الثقافية العميقة للمجتمع البدوي التي تنتمي له السيدة.
العمال الوافدون وفق هذا التصور في مقام الغرباء أو العبيد، الذين لا يمكن لهم الارتقاء إلى مرتبة الموالي أو المواطنين في الدولة الحديثة. ففي مجتمع قبلي يحرص على ترسيخ ترابية مقيم ـ مواطن، مقابل وافد ـ عبد ، يصبح من البديهي الانتصار لحقوق الأول ورفاهيته في ظل الأزمة (رعاية صحية معتادة، مواد غذائية مستدامة) فيما لا خوف ولا تبكيت من ضمير في التضحية بحاجات الآخر الأساسية التي تحفظ وجوده، ما دام وجوده معلقًا على وجود سيده المقيم.
في معرض التخفيف من حدة ردود الفعل التي آثارتها تصريحاتها اللاإنسانية ضد العمالة الأجنبية الوافدة إلى الكويت، أصرت الفهد أن حديثها لم يكن موجها لجميع الوافدين بقدر ما كان موجها لفئة خاصة تعرف بالمخالفين أو المقيمين غير القانونيين. المخالفون، لمن لا يعرفهم، مجموعة كبيرة من العمال الآسيويين الذي اضطرتهم ظروف العمل غير الإنسانية، لترك العمل عند كفيلهم الأول، في محاولة محفوفة المخاطر للعثور على ظروف عمل أفضل عند كفيل آخر.
تتحدث الفهد عن المخالفين وحالها حال من يتحسس مسدسه ليطلق النار على أعدائه المحتملين عند كل منعطف. ففي عرفها، المخالفون أكثر من أعداء متوهمين، إنهم قنبلة بيولوجية قد تنفجر في وجه أهل الديرة الطيبين في أية لحظة. ففي ظروف عيش ثلاثين مخالفًا في شقق صغيرة لا تصلح لعيش عائلة صغيرة، تتوافر كل الشروط المناسبة لانتشار الوباء على نحو لا قدرة لأي جهاز صحي على إيقافه.
محقة هي السيدة في رؤيتها السوداوية لوضع المخالفين الذي لا يطاق، لكن ليس لجهة كونهم قنبلة بيولوجية مؤقتة، بل لجهة كونهم أناسًا من دم ولحم وكرامة، قد يكونون عرضة للخطر المحتمل أكثر من غيرهم. كان أولى بالسيدة الفهد أن تسلط الضوء على حقوقهم المهدورة من كفلاء بلادها الذين لاذمة لهم ولا وجدان في عملية استغلال حاجة مستخدميهم لبيع قوة عملهم، بدلًا من الحديث الاستعلائي عن ضرورات تطبيق الحجر الصحي، على آلاف الناس في صحراء ممتية لا تصلح ربما لحياة الفيروس نفسه، فما بالك بالكائن البشري!
الغائب عن ذهن السيدة حياة الفهد في التصدي لوباء الكورونا القاتل، في بيئتها اليومية كما بيئتها الوطنية ، هو التضامن
لم تتوقف اقتراحات السيدة لضمان النجاة لفرقة أهالي ديرتها الطيبين بفرض العزل الجهنمي على المخالفين، بل تعدته إلى طرد الوافدين القانونيين أيضًا، بحجة عدم قدرة البلاد على تحمل كل هذا العدد المهول من السكان، حيث الجهاز الصحي والرزاعي متواضعان. فما هذا المنطق الذي يحكم عقلية الفهد، التي تصر على أن تتعامل مع الناس كأشياء، يكون من المفيد الترحيب بهم إذا كان وجودهم يحمل فائدة تذكر لأسيادهم، ويتم الاستغناء عنم في حال شكلوا مصدرًا لخطر محتمل على حياة المشغلين. ثم من قال إن طرد جميع المقيمين؛ المخالفين منهم والقانونيين، هو السبيل الرشيد لحماية الكويت من تبعات انتشار هذا الوباء القاتل، ما دام انتشار المرض من عدمه، متوقفًا على تضامن جميع سكان المكان، بغرض النظر عن مدى الهلاوس التي يحملونها تجاه الوباء من عدمه.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. دروس في الدولة والإنسان
الغائب عن ذهن السيدة حياة في التصدي لوباء الكورونا القاتل، في بيئتها اليومية كما بيئتها الوطنية ، هو التضامن، حيث الطريقة الوحيدة لرعاية نفسك هي المبادرة لرعاية الآخرين. فبدلًا من التفكير برمي الناس المشكوك بقدرتهم على نشر الوباء إلى الصحاري والمعازل، يتوجب المسارعة لنشر الوعي التضامني بين جميع الذوات المهددة. فما يجب أن نتعلمه من كوفيد ـ 19، حسب نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية فيديريكا موغيريني، إغناء مفهوم التضامن على نحو يتطابق مع مفهوم "الأنا الجديدة"، حيث حماية الأنا الفردية متوقفة على حماية جميع الأنوات الفردية الأخرى، على النحو الذي يقود إلى حماية الأنا الجمعية الكبرى للمجمتع.
اقرأ/ي أيضًا: