كثيرةٌ هيَ الكتب التي قرأتها وتقوم على الفنّ العباراتي المسمى بالـ"شذرة"، منها كتب أدبية مثل: "أصوات" لأنطونيو بورشيا، و"المياه كلّها بلون الغرق" أو "مثالب الولادة" لإميل سيوران، ومنها كتب فكرية مثل: "هروبي إلى الحرية" لعلي عزت بوجيفيتش، أو "أيها العقل من رآك" لعبد الله القصيمي.
"المياه بلون الغرق" و"هروبي إلى الحرية".. وسواها، كتب تعرض أفكارها في عبارات منفصلة عن بعضها البعض
ما تجتمع عليه هذه الكتب جميعها أنّها تعرض أفكارها في عبارات منفصلة عن بعضها البعض، ومكونة من عدد من الكلمات تزيد أو تنقص بما يخدم الفكرة الرئيسة التي تأتي العبارة لتعبّر عنها. بعض العبارات ترد في شكلٍ سرديٍّ طويل واضح الفكرة والتفاصيل ولا يحتاج من قارئه بذل الجهد والدخول في مغامرة تأويلاته، وبعضها الآخر يأتي في شكلٍ مكثّف وقصير غامض الفكرة والتفاصيل وكأنّه يحفّز حسّ الفضول في قارئه ليدفع به نحو الدخول في مغامرة تأويله.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد الأصفر
أكثر ما يُعجبني في هذا الفنّ العباراتيّ هو كيفية تعاطيه مع العبارة وتعامله معها وكأنّها بناء مُفرد ومتكامل خارج عن كلّ السياقات. إنّ العبارة في هذا الفنّ هي الكلّ والجزء، تأتي وكأنّها انبثقت في التوّ واللحظة، ولا يجب عليها أن تتحمّل عبء أن تكون مكمِّلة لما قبلها أو تابعة لما بعدها، فهي العبارة المستقلة عن كلّ شيء الخارجة عن سياقات كلّ شيء.
وأكثر ما يُثيرني في هذا الفنّ العباراتي هو أنّه يُتيح لي في بعض الأحيان أن أخلقه وأكون صانعته ومبتكرته وذلك في كلّ مرّة أقوم فيها بانتزاع عبارة ما والاختلاء بها وتفكيكها خارج سياقاتها، بعيدًا عن ما قبلها وما بعدها، وكأنني بذلك أتيح لها خلقاً جديداً وانبثاقاً ثانياً من قلب العدم واللاشيء، وكأنّني أحيلها من موقعها كجزء مكمِّل للسياق أو تابع له إلى كلّ متكامل متمرّد وخارج على قوانين السياقات جميعها.
عبارات كثيرة قُمتُ بانتزاعها من سياقها، وتفسيرها وتفكيكها بعيدًا عنه، بل والاستعانة بعبارات أُخرى في عملية التفسير؛ بعض هذه العبارات انتزعتها من سياقِ الأغنية، وبعضها الآخر انتزعتها من سياق القصيدة، وبعضها الثالث انتزعتها من سياقها الموجود في متن كتاب فكري أو رواية. وفي كلّ مرّة أفعلها أشعر بأنني قد أتحتُ لهذه العبارات فرصة لولادة جديدة وانبثاق آخر، وذلك بما أُضفيه عليها من تفسير جديد وتأويل مُبتكر ومعنىً خاصّ يختلف بطبيعة الحال عن معناها وهيَ في سياقها الأصلي وموضعها الأصيل.
ومن أمثلة العبارات التي انتزعتها من سياق الأغنية عبارة "يا من صوّرت ليَ الدنيا كقصيدة شعر" من أغنية "رسالة من تحت الماء" لعبد الحليم حافظ، وعبارة "بعدو بيعنيلك متلي الخريف؟" من أغنية" "بيذكر بالخريف" للسيدة فيروز، وقد قُمتُ بأخذ هاتين العبارتين وانتزاعهما وتفكيكهما بعيداً عن سياقاتهما الأصلية كالآتي:
"يا من صوّرت ليَ الدنيا كقصيدة شعر"
في أغنيته "رسالة من تحت الماء" يخاطب عبد الحليم حافظ حبيبته ويقول: "يا من صوّرت ليَ الدنيا كقصيدة شعر". وفي مقام آخر يقول راي برادبري في كتابه "الزنّ في الكتابة": "اقرأ الشعر في كلّ يوم من حياتك. الشّعر نافعٌ لأنّه يشدّ عضلاتٍ لا تستخدمها بما فيه الكفاية. الشعرُ يمدّ حواسكَ ويُبقيها متأهبّة. يجعلكَ واعيًا بأنفك، عينك، أذنك، لسانك، وكفّك، وفوق كلّ ذلك. الشعرُ مكنوز بالمجاز والاستعارة، تلك المجازات كأوراق الزهر اليابانية، قد تتمدّد في الفضاء في تكوينات هائلة". وبربط الكلامين معًا، يُمكن القول بأنّ ما يميّز الشعر بشكل عام هو التكثيف، أيّ السرد القصير المكثّف المكتنز بالمجاز والاستعارة، والذي يُمكن أن نأخذ مقطعًا منه ونفكّكه ونجعل منه سردًا مفصلًا وممتدًا في أشكال تكوينات جمالية هائلة. والحبّ يصوّر لنا الدنيا كقصيدة شعر، أيْ أنّه يجعلنا نراها في شكلها الأكثر كثافة وحيوية، إنّه يُحفّز شعورنا بها ويجعل حواسنا متأهبة لالتقاط تفاصيلها الجمالية الدقيقة والغائبة، إنّه يمدّ أعيننا وآذاننا وألستنا وأكفّنا بقوة مضاعفة ويبثّ فيها الجاهزية لملاحظة عناصر الجمال الصغيرة والدقيقة التي لا نلتفت إليها بالعادة، إنّه يجعلنا ننتبه لوقع حبة مطر وتغريدة عصفور وترنيمة أغنية، ويقودنا نحو سماع إيقاع الأشياء. أجل، هو الحبّ حينَ يأتينا فيشدّ فينا عضلات الحواس التي أهملناها، ويجعلها تلتقط ما غيِّب عنا من تفاصيل الحياة الجميلة الدقيقة والمكثّفة، تلك التي ما أن تلتقطها حواسنا حتى تبسطها لنا في سردٍ تفصيليٍّ ممتد يصوّر لنا ما حولنا –بالتفصيل- في أشكال تكوينات جمالية هائلة.
راي برادبري: اقرأ الشعر في كلّ يوم من حياتك. الشّعر نافعٌ لأنّه يشدّ عضلاتٍ لا تستخدمها بما فيه الكفاية
"بعدو بيعنيلك متلي الخريف؟"
سؤال السيدة فيروز في أغنيتها بيذكر بالخريف "بعدو بيعنيلك متلي الخريف؟" يعني لي كثيرًا، وفي كلّ مرّة أستمعُ إليه أودّ أن أوجهّه لمن أحبّ أو سأحبّ، أهمية هذا السؤال بالنسبة لي تأتي من كونه متصّل بتفصيل خصوصي متعلّق بي، فأنا بنتُ الخريف وولدتُ فيه، الخريف كتفصيل من تفاصيل خصوصيتي يعني لي كثيرًا، ويعني لي أن يُشاركني من أحبّ أو سأحبّ هذا التفصيل، فيَصبح هذا التفصيل الصغير يعني له كما يعني لي. إنّ هذا التفصيل صغير بالنسبة للآخرين لكنّه كبيرٌ بالنسبة إليّ لأنّه متعلّق بي، وأريد لمن أحبّه أو سأحبّه ان يعتني به ويُعنى به ويُعلي من قيمته بالنسبة له ليُصبح في نظره تفصيلًا كبيرًا لأنّه متعلّق بالمرأة التي تُحبّه ويُحبّها. هذا المقطع الصغير من أغنية السيدة فيروز والذي ألتفتُ إليه لأنّه مرتبط بتفصيل خاصّ متعلّق بي يجعلني أتساءل: هل حقًّا وأنا أدندن هذا المقطع أطلبُ ممن أحبّ أو سأحبّ أن يُعنى بالخريف لأنّه يعنيني فقط؟ أم أطلبُ منه ذلك لأنّني أرى فيه جزءًا من تفاصيل كلّيتي؟ ثمّ أليسَ خروج هذا التفصيل من مساحة خصوصيتي -كأن أكون مولودة في غير الخريف- لن يجعلني ألتفت إليه وأخاطب من أحبّ أو سأحبّ بسؤالي هذا؟ وكأنّ هذا السؤال البسيط الذي اُضمّن فيه طلب الاعتناء بتفصيل خصوصيتي أختزلُ فيه سؤالًا أضمّن فيه طلبي بالاعتناء بتفصيل كلّيتي، وكأنّني أقول لمن أحبّ أو ساحبّ: أريدُ أن أعني لك، وأريدك أن تعتني بي في صيغتي وصبغتي الكلّية التي تُشكّل تفاصيل خصوصيتي -ومنها الخريف- جزءاً لا يتجزّأ منها.
اقرأ/ي أيضًا: أحلام فلاديمير نابوكوف تكشف عن تجارب العودة بالزمن
ومن أمثلة العبارات التي انتزعتها من سياق القصيدة عبارة "أيّتها المرأة التي تصْمت بانفجار وتصيح كالأريج، المحجوبة بصدقها المكشوفة بصدقها"، من قصيدة "حزني عظيم نعم" لأنسي الحاج، وعبارة "الجميلات هنّ القويات؛ يأسٌ يضيء ولا يحترق"؛ من قصيدة "الجميلات" لمحمود درويش، وقد قُمتُ بأخذ هاتين العبارتين وانتزاعهما وتفكيكهما بعيدًا عن سياقاتهما الأصلية كالآتي:
"أيّتها المرأة التي تصْمت بانفجار وتصيح كالأريج، المحجوبة بصدقها المكشوفة بصدقها"
يقول أنسي الحاج في مقطع مأخوذ من إحدى قصائده: "أيّتها المرأة التي تصْمت بانفجار وتصيح كالأريج، المحجوبة بصدقها المكشوفة بصدقها"، استوقفتني في هذا المقطع عبارة -تضمنها متنه- مكونة من لفظتين متناقضتين في معناهما، هذه العبارة هي: "المحجوبة بصدقها"، وبفصل العبارة عن السياق الكلي الذي وردت فيه فكيف يكون ذلك؟ وكيفَ يُمكن للصدق أن يكون حاجبًا وأساسه الكشف وعنوانه الوضوح؟ العبارة التالية في المقطع تقول: "المكشوفة بصدقها"، هذه عبارة مفهومة، واضحة، تأتي بما يقرّ بالعلاقة المتلازمة بين الصدق والوضوح/الكشف، فكلّ صادق بالضرورة واضح، وكلّ صادق بالضرورة مكشوف، لكن وبالعودة إلى العبارة الأولى: "المحجوبة بصدقها"، فإنّ هذه العبارة تأتي لتقرّ علاقة متلازمة غريبة من نوعها بين لفظتين متناقضين في معناهما؛ الصدق والغموض/الحجب، هل يُعقل أن يكون الصدق حاجبًا، أن يتطلع الناس إلى وضوحه فلا يرون فيه إلا التواري والغموض، ومتى يُمكن أن يحدث ذلك؟ إنّ سؤال متى يحدث ذلك قادني إلى عبارة أخرى قد تفسّره أو تجيب عليه، تقول تلك العبارة –وهي لحسين البرغوثي- "وكان واضحاً، ووضوحُهُ يُخيفُنا، فنلتفُّ بعباءةِ السرِّ وننفضحُ نحنُ، وكنا نحبُّ الغموضَ، وكان واضحًا، وهذا ما كان غامضًا فيه"، يقرّر حسين هنا أنّ الناس بشكل عام يخافون الوضوح، والوضوح الأول هنا هو الوضوح العادي البسيط ذي المستويات المعتدلة بلا أيّ إفراط أو تكثيف، لكن ماذا عن الوضوح الثاني الذي يقول فيه: "وكان واضحًا، وهذا ما كان غامضًا فيه"، إنّه الوضوح المتطرّف، الصادق حتى الأقاصي، المكشوف بالكلية، هذا المكثّف الذي لا يحتمل الشكّ أو الالتباس، والذي لفرط ما فيه يلتبسُ –وهو الذي لا يحتملُ الالتباس- على كلّ الأذهان الذي لم تعتد على التعاطي معه، إنّ هذه الأذهان تنظر إليه ولا ترى فيه سوى نقيضه، تنظر إلى صدقه ووضوحه ولا احتجابه فتراهم كذبًا وغموضًا واحتجابًا. إذًا، وبالرجوع إلى أنسي الحاج، فتلك المرأة كانت محجوبة بصدقها لفرطه فيها وكثافة تواجده، حيثُ كان يلتبسُ على كلّ الأذهان التي لم تعتد على التعاطي معه، والتي كانت تُعاينه فتحجبُ حقيقته عنها وترى فيه نقيضه.
"الجميلات هنّ القويات؛ يأسٌ يضيء ولا يحترق"
في قصيدة "الجميلات" يُفرّق محمود درويش في مقطع "الجميلات هنّ القويات؛ يأسٌ يضيء ولا يحترق"؛ يُفرّق بين يأسين، يأسٌ تتمتّع به النساء القويات وهو يأسٌ يُضيء وآخر تتمتّع به غيرهنّ مما لا يتّصفن بهذه الصفة وهو اليأس الذي يحترق؛ وفي نظرة ممعنة في قول الدرويش يُمكن التأكيد على أنّ اليأس المضيء الذي ذكره الدرويش والذي تتصّف به النساء القويات هو اليأس الواعي، أيْ اليأس المُدرِك لأسبابه، وهذا يعني أنّ القوة المقصودة هنا هي قوة الوعي أولاً، فالمرأة ذات القوة الواعية ليس باستطاعتها إلا أن تيأس ذلك اليأس الواعي المثقّف المنبثق من إدراك حقيقي للواقع المزري الذي تُعايشه، وهذا اليأس يختلف عن غيره في أنّه يدفعها لسلوك طرق المقاومة والمناهضة بدل مسالك الاستسلام والتسليم، فيكون هذا اليأس القوي الواعي بمثابة النور الذي يضيء لها طرق المجابهة والرفض وهو ما يُبعدها عن الاحتراق بنيران يأسٍ آخر يفتقر للوعي ويقود نحو مزالق التقبّل والاستسلام للواقع السيئ.
يُتيح فن الشذرة لك أن تصنعه بيديك، فتختطف ما شِئتَ من العبارات، وتحتجزها كرهائن لديك
اقرأ/ي أيضًا: 5 أعمال من المكتبة الروائية الأندلسية
إنّه فنّ الشذرة، هذا الفنّ الذي يُتيح لكَ أن تصنعه بيديك، شريطة أن تكونَ مُجرمًا لُغويًا، فتختطف ما شِئتَ من العبارات، وتحتجزها كرهائن لديك، وتُفكِّكها خارج سياقاتها، مُضفيًا إليها تفسيرها الجديد، وتأويلها الجديد، ومعناها الجديد، وولادتها الجديدة، تلكَ الأخيرة التي حدثت على يديْ شخصٍ مثلك يَدخل تعريفه ضمن أعتى المجرمين اللغويين!
اقرأ/ي أيضًا: