للحديث عن المُدن هيبة وشجون، وعندما يكون الحديث عن القاهرة فالأمر أعظم، مباني المدينة العتيقة صناديق للحكايات بعضها رواه التاريخ، وبعضها الآخر دُفن مع أصحابه، لكن بقيت المباني والشوارع شاهده عليهم.
تعرضت القاهرة للهدم وتغيير الملامح والإهمال، بسبب الزيادة السكانية وانخفاض منسوب النيل وإهمال المسؤولين
تعرضت بعض ملامح القاهرة للهدم وتغيير الملامح والإهمال، وذلك لعوامل عديدة منها الزيادة السكانية وانخفاض منسوب النيل وإهمال المسؤولين، بل وتواطئهم في بعض الأحيان لهدم المباني الأثرية لصالح بناء أبراج سكنية إسمنتية مشوهة الملامح.
اقرأ/ي أيضًا: "اللي بنى مصر".. حكاية نشأة القاهرة في ألفيتها
على مر الزمان كانت القاهرة محط أنظار الجميع، محتلون وغزاة وحكام حفروا أسماءهم فوق جبين المدينة القديمة، من عهد الفراعنة إلى الآن. امتلأت القاهرة بالآثار المتنوعة، كل منها يشهد على عصره، حتى وصلنا اليوم إلى عصر الزجاج والإسمنت والزحام.
تبدو القاهرة اليوم عجوزًا تقف فوق هضبة المقطم، تنفث دخان سيجارتها في وجه القبح المعماري الذي شوّه ملامحها، بينما تنظر بامتنان إلى جمالها الخالد. الفراعنة والفاطميون تركوا بها جمالًا لا يمحوه الزمان، الأهرام والمساجد باقية كالحلم في عقول الصغار، لكنها لم تسلم من العبث بما حولها.
منذ ما يقارب المئة عام، أو أقل من ذلك، كان النيل يمر إلى جوار الأهرامات، ومع دخول الترام إلى القاهرة، أنشئ خط في شارع الهرم وإلى جواره بنيت بعض الفلل والقصور.
تغير كل ذلك مع بناء السد العالي الذي ساهم بدوره في انخفاض منسوب النيل، والزيادة السكانية وسياسات الانفتاح وسفر المصريين للخليج الذي أحدث انتعاشًا اقتصاديًا للطبقة المتوسطة، كل تلك العوامل ساهمت في اختفاء النيل والزراعة وتحول شارع الهرم إلى غابة من الأبراج السكنية.
مساجد القاهرة الشهيرة وعلى رأسها جامع الحسين لم تسلم هي الأخرى من تغيير مشاهدها، للحسين مكانة عظيمة عند المصريين، يعتبره الكثيرون ملاذًا عند الشدائد ويزوره الملايين، بلّر نجيب محفوظ تلك المكانة في رواياته التي كان المكان أحد أبطالها، من دنيا "الحرافيش" إلى صخب البائعين، كان المسجد يقف وحيدًا شامخًا في صوره القديمة.
أما اليوم، فميدان الحسين مليء بالمقاهي والمطاعم وبالباعة الذين يعرضون بضاعتهم في كل مكان، في المحال التجارية وعلى الأرصفة وفي ساحة المسجد ذاتها، تبدو الصورة في الماضي أكثر هدوءًا وعبقًا، بالرغم من بساطة كل شيء إلا أن الطابع التاريخي للمسجد كان طاغيًا وكأنه قد بني للتو.
القاهرة الخديوية، أو ما يعرف بوسط البلد كذلك شهدت بعض التغيير، مؤخرًا تم طلاء مبانيها باللون الأصفر. اعترض الآثاريون والمعماريون على ذلك، لكن اعتراضهم لم يغير من الواقع في شيء.
القاهرة تصارع الزمن، تنتصر عليه جولة فيهزمها جولات، ورغم كل شيء تبقى المدينة الصاخبة محرابًا للتاريخ
بعض المحال والمطاعم والمقاهي القديمة أغلقت أبوابها لتحل محلها نسخ قديمة أقل جمالًا وأكثر ازدحامًا بالزبائن. الحال لم يختلف كثيرًا في السينمات القديمة مثل سينما ديانا وسينما مترو التي طالتها يد الإهمال وقل الإقبال عليها، بعد افتتاح نظيرتها الأكثر تطورًا في المولات.
اقرأ/ي أيضًا: سيرة مشوّهة لمواطن مصري ندهته نداهة القاهرة
إجمالًا يمكن تخليص المشهد في أن القاهرة تصارع الزمن، تنتصر عليه جولة فيهزمها جولات، ورغمًا عن كل شيء تبقى المدينة الصاخبة محرابًا للتاريخ الذي زينته نقوش الجمال. تسكن القاهرة في قلب زوارها وكأنها أول حبهم، قد يكرهها البعض لكن ذكراها تظل راسخة في كل القلوب.
اقرأ/ي أيضًا: