كنا في الجزء الأول قد تناولنا المجتمع المصري وتوزيعه السكاني ومناطقه العشوائية وفي هذا الموضوع، نتناول شرائح الطبقة الوسطى ومجتمعات الصفوة وآليات الفساد التي شكلت جميعها مصر التي نراها الآن.
في مصر لطالما شكلت الطبقة الوسطى العمود الفقري للحركة السياسية في المجتمع المصري
في كثير من الدراسات التي تناولت الطبقة الوسطى في مصر كان من المستحيل رسم الحدود داخلها، بين الشرائح المختلفة داخل الطبقة الوسطى نفسها، ولم يعد من السهل تصنيفها وفقًا للعوامل التقليدية العادية التي تعتمد: الدخل والثروة، ومستوى التعليم، والمكانة الاجتماعية، والعلاقة بوسائل الإنتاج، بل أشار الدكتور محمود عبد الفضيل، الكاتب والمفكر الاقتصادي المصري، في كتابه رأسمالية المحاسيب، إلى ضرورة وجود ما أسماه بالعنصر المركب الذي يمكنه قياس كل هذه العناصر.
اقرأ/ي أيضًا: القاهرة.. من فقراء المدن إلى مجتمعات الكومباوند (1 ـ 2)
كما وتعزو الدراسات صعوبة ترسيم الطبقة الوسطى إلى أن التعبير فضفاض، فهي طبقة غير متجانسة، بل متعددة الشرائح والمراتب ولكن بها ثلاث شرائح رئيسية: الوسطى العليا: الأطباء والمهندسون ومديرو شركات القطاع العام والقطاع الخاص، والقطاع المصرفي وأرباب المهن الحرة.
أما الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، فهي تعتبر الوعاء الحقيقي للطبقة الوسطى وتضم المهنيين والأخصائيين وكبار الإداريين في الجهاز الحكومي. أما الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، فتضم صغار الموظفين والحرفيين وأصحاب المحلات التجارية المتوسطة والصغيرة.
الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى غالبًا ما تكون مضغوطة اجتماعيًا وماديًا، فهي تكدّ لكي لا تتدهور أوضاعها المعيشية، لأنها دومًا مهددة بالفقر النسبي وهي الطبقة التي تدهورت أوضاعها كثيرًا هذه الأيام بعد التعويم خاصة، وكان يطلق عليهم الجبرتي "مساتير الناس" لسعيهم للستر بالتعبير الشعبي.
وتختلف هذه الطبقة عن الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، التي تعيش في بحبوحة من العيش وتحاول اللحاق بأنماط معيشية تشبه حياة الطبقة العليا عن طريق التقليد أو ما يسمى في علم الاقتصاد أثر المشاهدة Demonstration Effect وينعكس ذلك في رغبتها في امتلاك السلع المعمرة من العقارات والسيارات وغيرها.
وتعاني الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى من انعدام طاقتها الادخارية، وعجز دائم في ميزانيتها وتعيش في الغالب على الاستدانة من شهر لشهر.
الدور السياسي للطبقة الوسطى
في مصر لطالما شكلت الطبقة الوسطى العمود الفقري للحركة السياسية في المجتمع المصري منذ ثورة 1919 وحتى عام 1952 وفيما أسماه السادات ثورة (الحرامية)، أو ثورة الجياع في حقيقة الأمر، التي كانت في السبعينيات، ومن بين صفوفها انحدر أهم المفكرين والكتاب والفنانين من أمثال طه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين وتوفيق الحكيم وعبد الوهاب المسيري. وهي الوعاء الذي انطلقت منه ثورة الخامس والعشرين من يناير.
ولكن هذه الطبقة منذ منتصف السبعينات، عادت لتعاني عدة مشكلات مزمنة، منها الإنهاك المادي والمعنوي ولجوء أفرادها لتعدد الوظائف والأعمال الإضافية حتى تستطيع أن "تستر نفسها".
تزامن ذلك مع بداية موسم الهجرة إلى الخليج وما ترتب عن ذلك من تغير في القيم والمفاهيم والحياة. وتوغل العولمة من أوائل التسعينات مما خلق نوعًا من التفكك وتضارب المصالح بين الطبقات كما خلق كل هذا انعدامًا في التجانس بين الشرائح الثلاث، مما أدى إلى إضعاف فاعليتها السياسية.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم فبراير الأسود.. حكاية الطبقة الوسطى المصرية
الأثرياء ومجتمعات الصفوة
تقدر عدد الأسر الثرية في مصر بحوالي 750 ألف أسرة أي نحو 4% من إجمالي الأسر المصرية
هم كبار رجال الأعمال والمقاولون وكبار التجار وكبار أرباب المهن الحرة من محامين وأطباء ومهندسين استشاريين وعناصر الإدارة العليا وكبار المهنيين في شركات القطاع الخاص والقطاع المصرفي.
ويقدر الخبراء دخل هؤلاء السنوي بما لا يقل، في المتوسط، عن ثلاثة ملايين جنيه مصري وهي فئات لها نمطها المعيشي الخاص على مستوى التعليم والسكن والتسوق والترفيه. وأماكن سكنهم وتجمعهم في مناطق محددة من القاهرة الكبرى مثل التجمع الخامس والمنتجعات على طول طريق مصر – الإسكندرية الصحراوية وبعض مناطق 6 أكتوبر ومنطقة المنصورية. ويقدر الدكتور محمود عبد الفضيل عدد هذه الأسر بحوالي 750 ألف أسرة أي نحو 4% من إجمالي الأسر المصرية ، التي يبلغ عددها 17 مليون أسرة تقريبًا. وهي الأسر التي تملك تقريبًا مجمل الثروة.
أما النمط الاستهلاكي لهذه الفئة فيتسم بـ"الإنفاق الترفي" من تبديد للمدخرات في شراء العقارات والمنتجعات والمصايف الراقية دون الاستثمار في توسيع الطاقة الإنتاجية أو الإسهام في زيادة فرص العمل.
مجتمعات الكمباوند (التجمعات السكنية المغلقة)
هي التجمعات السكنية التي تتسم بوجود أسوار وبوابات تعزل قاطني تلك المساكن عن بقية سكنات المجتمعات المحيطة بها. وقد انتشرت تلك الظاهرة بشكل سرطاني لتغطي تخوم مدينة القاهرة، ويشير الدكتور محمد محي الدين في دراسته المعنونة "مصر القلاعية" إلى أن تلك الظاهرة "نتاج لسعي الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة للهرب من الفوضى التي تعم المناطق التقليدية".
آليات الفساد
يمكن حصد أهم مكونات الفساد الاقتصادي في مصر من خلال عدة عوامل أولها، تخصيص الأراضي، وهو ما يتم من خلال قرارات إدارية علوية تأخذ شكل العطايا لتستخدم فيما بعد في المضاربات العقارية، وثانيًا، المحاباة والمحسوبية، والتي تتضح جلية في التعيينات في الوظائف الكبرى خاصة في سلك القضاء وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات، وثالثًا: إعادة تدوير المعونات الأجنبية للجيوب الخاصة حيث تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 30% منها لا تدخل خزينة الدولة، وإنما تذهب إلى جيوب المسؤولين الكبار، ورابعًا قروض المجاملة التي تمنحها المصارف دون ضمانات جدية لكبار رجال الأعمال هذا بالإضافة إلى بند عمولات عقود البنية التحتية وصفقات السلاح.
وما تعاني منه مصر في حقيقة الأمر ليس الفساد فقط بل تكلفة الفساد على اقتصاديات البلاد المنهكة من الأصل، بسبب ارتفاع حجم التهرب الضريبي الذي يؤدي بدوره إلى زيادة العجز في الموازنة العامة وارتفاع تكاليف التكوين الرأسمالي (المباني والمعدات) بسبب العمولات الإضافية التي تُدفع للجهات الفاسدة كعبء على رأس المال.
اقرأ/ي أيضًا: