القدسُ مدينةٌ كونيّة ارتبطت بمرجعيّة دينيّة للدّيانات السماويّة الثلاث: الإسلام، والمسيحيّة، واليهوديّة. مدينةٌ تحمل ظلالًا سماويّة، شكّلت حجًّا جمعيًّا كونيًّا لسّكان البشريّة في الأرض، وإن تشكّلت مدينة القدس من منظور دينيّ فقد انتقلت لترتبط في نزاع سياسيّ وعسكريّ؛ فعبر آلاف السنين وإلى اليوم يؤمّها البشر طالبين الغفران من ربّ السماء وعلى أسوارها أسيلت دماء، لتكون الدّماء خطيئة البشريّة التي لا تُغفر.
مدينةُ القدس أيقونةُ أدب الرّحلات، فما من رحّالة زار الشرق إلّا زار القدس تكفيرًا عن خطيئة، أو بحثًا عن غفران، أو قراءة لمعالم التاريخ في المكان؛ فأقواسها شاهدة على ضربة منجنيق أو خدوش سهام، وعلى عتباتها آثار المدفع، وعلى أسوارها تستقر رصاصات لجأت إليها هربًا من خطيئة قتل جسدٍ ضعيف. وفي السؤال كيف كانت القدس عبر التّاريخ، وما هي معالمها؟ لنجد الإجابة في معالم الأدب الرّحْلي.
مدينةُ القدس أيقونةُ أدب الرّحلات، فما من رحّالة زار الشرق إلّا زار القدس تكفيرًا عن خطيئة، أو بحثًا عن غفران، أو قراءة لمعالم التاريخ في المكان
كثيرةٌ هي الرّحلات الّتي أمّت القدس؛ فعلى كلّ ضامرٍ دخلها الرّحالة لتكون مشاهداتهم تاريخًا يُسرد، وذاكرةً تُستعاد. من الأندلس والغّرب العربيّ: ابن جُبيْر، أبو بكر بن العربيّ، ابنُ بطّوطة، أبو الحسن القلصادي، ابن الأزْرق. ومن الرّحالة الأوروبيّين : سايلوف (Seawulf)، الرّوسيّ دانيال الرّاهب (Russian aboot Daniel)، فيتلوس (Fetelus)، يوحنا فورزبورغ (John of Wurzburg)، الألماني ثيودريك (Theodoric)، وليام الصوري (William of Tyre)، ومن يهود الأندلس: بنيامين التُطيْلي.
والحقيقة التي تقال إنّ هذه الرحلات تُشكّل رافدًا معرفيًّا لفهم التكوين الجماليّ المعماريّ لمعالم القدس المسيحيّة من كنائس ومذابح وقبور، وهي بالنسبة للرّحالة المسلمين ترتبط زيارة القدس بما يسمّى بالحج الأصغر، وللمسيحيين تشكّل الحج الأكبر. ومن هذا التشكيل سننظر إلى القدس في مقاربة زمانيّة مكانية وفق عيون الأدباء، وذلك في رحلتين من الأدب الرّحْليّ: الأولى: حظيرةُ الأُنْس إلى حضْرة القُدس لابن نباتة المصريّ التي قام بها في حدود عام (1300 للميلاد)، ورحلة الأديب والروائيّ الفرنسيّ غوستاف فلوبير، والّتي قام بها في حدود 1850 للميلاد.
يقولُ ابن نُباتة: "وقمْنا لبقية المشاهد قاصدين، ولتلك المباني المُعظّمة شاهدين ومُشاهدين، فعاودْنا الصّخرة بقلوبٍ قدْ لانت، ونثرْنا على مواطئ القدم دُموعًا عزّت بلمسها ولا نقول هانت". ويقول غوستاف فلوبير: "ها قدْ مضت علينا ثلاثةُ أيّامٍ ونحنُ في القدس، ولم يطرأْ شيء ممّا كنّا نتوقعه من انفعالاتٍ، وطفراتٍ وجدانيّة. فلا حماس دينيًّا هناك ولا إثارة للخيال، ولا حتّى كراهيّةً للقساوسة على الأقل. أشعرُ كأنّي أمام كلّ ما أراه أشبه ببرميلٍ فارغٍ، أو أفرغ منه. وأنا أقف أمام القبر المقدّس هذا الصّباح لم أشعر في قرارة نفسي بأدْنى انفعالٍ، بل لو وقف كلبٌ في مكاني لكان أكثر منّي انفعالًا".
يمثّل النصّان السّابقين تباعدًا زمانيًّا، وتقاربًا مكانيّا، لكنّ الحالة الروحيّة مختلفة أيّما اختلاف، فابن نباتة الموغل بالصوفيّة ينقل مشاعره بروح العارف، المدرك لعظمة قداسة المكان وطُهره، وكأنّ تلك المشاعر اهتزّت بوجْد المكان وتعالقها مع السّماء، كيف لا وموطئ قدميه هي موطئ قدمي الرّسول محمد (ص). ونجد فلوبير يتحاملُ على نفسه في زيارة المقدّسات المسيحيّة، وكأنّ تلك المعالم لم تنظر بعينيه منظرًا، ولم تحرّك ساكنًا، فآلام المسيح وفق مسيحيته لا تنطقها تلك الصخرة في كنيسة القيامة؛ فهو قادم من أوروبا بسحر كنائسها، فالمكان لم يشكّل السّحر للعين، ولم يحرك الزمان مشاعر الوجد، فكانت تلك المعالم صامتة تنقل الصمت ولا شيء سواه.
وبعيدًا عن القداسة ينقل لنا ابن نُباتة معالم الحضارة في القدس، إذ يقول: "فأمّا المياهُ الّتي تجري في الحرم على رأسها، وتطوفُ على المنافع بنفسها، فتلك نعْمةٌ مقيمة، يكافئ اللهُ عنها في دار المقامة، وحسنة في المعنى والصورة جارية إلى يوم القيامة". أمّا فلوبير، فيقول: "أطلال حيثما وليت وجهك، وإحساس كئيب يمتلكك من أثر شعورك بأنك تتجول في مقبرة، مدينة مقدسة عند ثلاثة من الأديان، لكنها تموت رويدًا من ملل ومن سقم ومن إهمال. وأضاف واصفًا: "وإذا ما استثنينا جوانب الحي الأرميني المكنوسة النظيفة، فكل أحياء المدينة متّسخة أيما اتساخ، بلاط الأزقة لا تكاد الخيل تستطيع السير فوقه، وفي الزقاق الذي فيه نزلنا هناك جيفة كلب أصفر تتحلل رويدًا دون أن يفكّر أحدٌ في دفعها بعيدًا، أمّا القاذورات عند أصل الحيطان فلا يحيط بفظاعتها وصف! بيد أنّ بقايا البطّيخ أقل منها في يافا".
مشهدان لمدينة واحدة، ابن نباتة ينقل لنا صورة الحضارة بمشهد النظافة، فصورة الصرف الصحيّ بتقنيّات جرّ المياه تصل بيوت الخلاء في شوارع القدس. لكنّ القدس في عيون فلوبير غير ذلك فلا نظافة فيها ولا اعتناء. لعلّ تلك المقاربة لمدينة القدس في فترات زمانيّة متباعدة تشكّل حاضر تكوين البنيّة العربيّة ودورها في بناء حضارة إنسانيّة، فمن المتوقع لو زار فلوبير الأستانة لما وجد تلك الجيفة في شوارعها.
يبدو أنّ قساوة الوصف أبلغ حزنًا من دموعٍ تذرف على مدينة نتباكى على فقدها منذ عشرات السنين، بعد أن غابت في أيامنا مئات السنين، ويبدو أنّ قبر تلك المدينة يكبر، وما زال وصف فلوبير حاضرًا إلى يومنا: "القدسُ قبرٌ جماعيّ يحيطُ به سور".