يغيب عن الاحتلال أن كل محاولاته لوضع تصور للحل يتجاوز فيها الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني تدفع الأوضاع للتأزم والانفجار، وتعيد المسألة الفلسطينية للمشهد بقوة، كل محطات المواجهة أثبتت ألا حل للقضية الفلسطينية خارج إطار العدالة والمساواة وإعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
تحتل القدس مكانة مهمة في الصراع القائم ولأسباب كثيرة، منها المكانة الرمزية والدينية لدى الفلسطينيين، أصبح صمود أهلها يعتبر درة تاج المقاومة الفلسطينية التي خطها نضال الشعب الفلسطيني في وجه المخططات الصهيونية التي تسعى لتهويدها، يبدو أن المقدسي لا يهدأ ولا يستكين إلا بانتفاضة جديدة يكون هو محركها، وتكون دينامو ثوري يعم كامل أرجاء الأراضي المحتلة.
أصبح صمود أهل القدس يعتبر درة تاج المقاومة الفلسطينية في وجه المخططات الصهيونية التي تسعى إلى تهويدها
التطورات الحاصلة في القدس تعيدنا إلى أجواء انتفاضة الأقصى عام 2000، كما أن مشهد الاقتحامات المتكررة لباحة المسجد الأقصى من قبل قوات الاحتلال يذكرنا بالزيارة الاستفزازية لرئيس لوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون للحرم القدسي، ذلك الحدث الذي كان الشرارة لاندلاع انتفاضة عام 2000.
حي الشيخ جرّاح، وهو أحد أهم أحياء الجانب الشرقي من البلدة القديمة في مدينة القدس، احتلته إسرائيل عام 1967، وتسعى أن يكون الحي رأس الحربة لمخططاتها الاستيطانية في القدس، فهو البوابة لباقي الأحياء العربية والاستيلاء عليه يعني تسهيل السيطرة على باقي أحياء المدينة.
شهد حي الشيخ جراح مواجهات عديدة بين سكان الحي ومستوطنين صهاينة مدعومين من قبل شرطة الاحتلال، على خلفية دعاوى قانونية طويلة الأمد، أقامتها جمعيات استيطانية ضد عائلات فلسطينية، تواجه خطر الإخلاء من منازلها المقامة على أراض تطالب بها تلك الجمعيات بغير وجه حق.
دور الشباب المقدسي في المواجهة الحالية كان مميزًا، فأغلبهم في سنوات العشرين، أي لم يعايشوا انتفاضة الأقصى ولم يشاركوا فيها. ومع ذلك كانت انتفاضتهم وهي تجربتهم الأولى في مواجهة الاحتلال والدفاع عن مدينتهم ردًّا على سياسات تدجين الشباب، فقد عمل الاحتلال على مدى العقدين الماضيين جاهدًا، وعقب انتفاضة الأقصى الثانية، على عزل أهالي القدس عن طريق إبعادهم عن كل عمل وطني وسياسي فلسطيني، لكن الشباب الفلسطيني أثبت فشل تلك المخططات، إذ كانوا بالمرصاد لكل استفزاز إسرائيلي.
ما ميز المواجهة الحالية هو العمل المنظم للشباب المقدسي على أكثر من صعيد، فبالإضافة للعمل الميداني عن طريق الرباط لمواجهة الاقتحامات ومساندة أهالي الشيخ جراح بدعمهم والاعتصام معهم أمام بيوتهم، كان أيضًا لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الفعال في هذه المعركة، إذ استطاعوا تنظيم مجموعات تعمل على شرح أبعاد القضية، ونشط الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي التي شهدت تحركًا غير مسبوق أشبه بانتفاضة إلكترونية في محاولة لنشر فيديوهات ينقلها النشطاء الفلسطينيون من على الأرض ولا تنقلها وسائل الإعلام الغربية، عن طريق تغطيات مستمرة من خلال خاصية البث المباشر عبر موقع التواصل الاجتماعي "انستغرام" بشكل يومي، أي منذ ساعات النهار الأولى حتى ساعات الفجر تنقل كل الأحداث الحية، فقد سجلوا نقاط عدة لفضح الممارسات الإسرائيلية من انتهاكات وقمع بحق سكان الحي ما خلق لأول مرة راي عام غربي واسع النطاق متعاطف مع القضية الفلسطينية، إذ تصدر هاشتاغ "انقذوا حي الشيخ جراح" قائمة أكثر الهاشتاغات تداولًا على معظم منصات التواصل الاجتماعي، دعمًا للأهالي الرافضين ترك بيوتهم، أيضًا تفاعل العديد من المشاهير حول العالم مع قضية الحي، وأبدى عدد كبير منهم تعاطفهم وتضامنهم مع سكان وعائلات حي الشيخ جراح، ونشر النشطاء الفلسطينيون والمتعاطفون مع سكان الحي صورًا ومقاطع مرئية للانتهاكات الإسرائيلية بحق سكان الحي، ومحاولتهم إجلاءهم من بيوتهم بشكل قسري.
تسعى إسرائيل أن يكون حي الشيخ جراح رأس الحربة لمخططاتها الاستيطانية في القدس
هذا التفاعل جعل إدارة منصات التواصل الاجتماعي المتواطئة مع الاحتلال كـ"تويتر" و"فيسبوك" لحذف أو حجب جزء من الفيديوهات المتداولة التي توثق الاعتداءات بحق الفلسطينيين، بالإضافة لإيقاف حسابات النشطاء الفلسطينيين والمتضامنين مع قضيتهم.
بالرغم من أن عمليات مصادرة المنازل وتهجير العائلات من حي الشيخ جراح لصالح المستوطنين ليست جديدة، لكن اختلف الأمر في اللحظة الحالية وجاءت وكأنها مفاجأة من حيث التحرك والثبات وحملة التضامن الذي أحدثتها، ومن خلال ردود الفعل الاقليمية والدولية، وحتى على الصعيد الشعبي، ما خلق حالة جديدة ألقت بظلالها على المشهد من خلال الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة على المشهد وما يمكن أن يترتب عنه في المستقبل.
تكمن قيمة حي الشيخ جراح وأهمية السيطرة عليه عند المستوطنين في دعم جهود الاحتلال لتهويد القدس، لكن مقاومة سكان الحي وأهالي القدس التي كان في الدرجة الأولى للحفاظ على هوية المدينة الفلسطينية أدت إلى تغيير قواعد اللعبة، فانقلب المشهد رأسًا على عقب وكانت التطورات التي حدثت والتي تصاعدت في الأسبوعيين الأخيرين، ما جعل الاحتلال يتراجع عن قرار استخدام البوابات في باب العامود بعد الهبة الشعبية في أحياء البلدة، بالإضافة للتصدي لمحاولات اقتحام ساحة المسجد الأقصى من قبل اليمين الإسرائيلي، الأمر الذي نتج عنه قرار شرطة العدو بتغيير مسار مسيرة قطعان المستوطنين المسماة مسيرة الأعلام حتى لا تمر من باب العامود.
وأمام هذه الانتصارات اللافتة التي حققها الشباب في القدس، رأينا غياب السياسي الفلسطيني، سلطة وفصائل، عن الأحداث الحاصلة، ماعدا البيانات الفارغة والمستهلكة في كل مناسبة، إذ ظهرت الهوة الشاسعة بين الشارع الفلسطيني والطبقة السياسية، ولا أوضح على ذلك من تصريح رئيس وزراء السلطة الفلسطينية محمد أشتيه، حين قال إن أحداث القدس هي مجرد إفراز لخلاف إسرائيلي داخلي!
هنا ظهرت المقاومة لتسد الفراغ في المشهد على مستوى القيادة السياسية، فأرادت أن تسجل لها حضورًا في تلك الأحداث كرافد وداعم للشباب الموجود على خط المواجهة في القدس، إذ أثار بيان أبو خالد محمد الضيف، قائد هيئة أركان كتائب عز الدين القسام، إثر دخوله إلى المشهد في 4 أيار/مايو الجاري، وتوجيه ما اعتبره التحذير الأخير للاحتلال، ومطالبته لهم بضرورة الاستعداد لدفع ثمن غالٍ إذا لم تتوقف الاعتداءات في الشيخ جراح؛ أثار الكثير من الجدل والاهتمام فلسطينيًا وإسرائيليًا، في حين ردد المقدسيون اسم الضيف في الهتافات في المسجد الأقصى، ومع كل تصعيد جديد من قبل الجنود والمستوطنين.
نفذت المقاومة وعدها بعد مهلة أعطتها لقوات الاحتلال للانسحاب من حي الشيخ جراح، وكان متوقعًا أن دخولها على الخط الصراع سينتقل لمواجهة مفتوحة وسنكون مقبلين على معركة قاسية. اللافت في الأمر أن المقاومة ألقت بكل ثقلها في المعركة وشاهدنا الصواريخ تصل إلى العمق الإسرائيلي، ليقابلها رد إسرائيلي عنيف طال كل مناطق قطاع غزة.
قرار المقاومة بخوض هذه المواجهة محسوب وفق مقتضيات الوضع الميداني والتطورات التي تحدثت في القدس، وقادتها يعرفون أين يضعون الخطوة التالية
قرار المقاومة بخوض هذه المواجهة محسوب وفق مقتضيات الوضع الميداني والتطورات التي تحدثت في القدس، وقادتها يعرفون أين يضعون الخطوة التالية، لكن حتى لا تكون تلك معركة المقاومة في غزة فقط فقد أصبح من الضروري استمرار الهبة الشعبية في مدن الخط الأخضر التي فاجأت المحتل وبددت وهم أن فلسطينيي 48 يتسمون بضعف الوعي السياسي والوطني، فالاحتجاجات في مدن اللد وحيفا ويافا وبئر السبع وأم الفحم... التي تحولت إلى ساحات حرب حقيقية لإسناد الصامدين في القدس والتضامن مع أهالي الشيخ جراح، كانت الرد على كل من اعتقد بتغييبهم على المشهد الفلسطيني، لا بل أصبحوا عنصرًا أساسيًا في تشتيت قدرة العدو في إدارة المعركة، وراح يحاول الانتقام منهم بإطلاق يد المستوطنين لتكثيف اعتداءهم في المدن المختلطة.
في قراءة المشهد العام يتضح أن الشارع الفلسطيني وحدة، ومن خلال الأحداث الأخيرة قادر على تحقيق مكاسب كبيرة، لكن يبقى الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية تتناغم مع الشارع لتتحمل مسؤوليتها للاستمرار في المشروع الوطني الفلسطيني، وأن لا حل سياسي في المنطقة يستثنى الفلسطينيين من حقهم وسيادتهم على القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة.