من السهل جدًا أن نجيب على سؤال "لماذا نقرأ؟" الذي تنحصرُ إجابته عند القراء المتمرسين، أو حتى الذين دخلوا إلى عالم القراءة متأخرًا، في أن الفرد قد يقرأ هروبًا من الواقع المؤلم ليخفف عن نفسه وطأة الخيبات المتلاحقة، وقد يقرأ حبًا بالقراءة والتعلم، أو بحثًا عن المتعة والتي لا تختلف في ذاتها عن تلك المتعة التي يجدها عند مشاهدته لفيلم سينمائي فالأمر عنده سيّان، وقد يقرأ لتزجية الوقت ليس إلا.
فرجينيا وولف: النصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة، هي أن تتبع حواسك
كل تلك الإجابات والاستنتاجات إن لم تكن صحيحة فهي أقرب إلى الصحة، حتى وإن كانت نبرة التعميم تعلو أغلبها، لكن السؤال الأصعب والذي تقف فيه الاحتمالات والاستنتاجات على الهامش حتى تتفادى الظهور الذي من الممكن أن يسبب لها عبئًا لا تملك القدرة على تحمله؛ هو أن تسأل أي قارئ "لماذا تقرأ؟"، فلن تخلو إجابته من تلك التي ذكرناها آنفًا حتى وإن كان يجيبك مجاملة للموقف، أما أن تسأله "كيف تقرأ؟" فهذا هو السؤال الأصعب، فـ"كيف تقرأ؟" بمثابة إلقاء حجر في مياهه الراكدة، هو بالتأكيد سأل نفسه هذا السؤال عشرات المرات، لكنه كان لا يحب أن يتعجل في إجابته، فكان يضعه على الهامش ويمضي حتى لا تتناوشه أفكار لا يحب الخوض فيها، خصوصًا لو كانت من نوعية تلك الأسئلة التي لا يملك لها إجابة، لكن عندما توجه السؤال إليه فأنت بذلك تجعله هو والسؤال هدفًا أمام طلقة الإجابة، وتنزع منه احتمالية التصويب فلا بد وأن يصيب الهدف، هذا بالضبط ما يشعر به أي أحد يريد أن يكتب عن كيفية القراءة الجيدة وأقصد هنا القراءة الفعل والممارسة والقراءة من أجل القراءة.
اقرأ/ي أيضًا: أكذوبة إحصائيات القراءة
حتى لو افترضنا أننا استطعنا أن نجيب على هذا السؤال "كيف نقرأ؟"، فالإجابة في النهاية ستظل قاصرة لا تتعدى صاحبها، لأنها تنبع وتنبثق من تجربة فردية قد لا تتفق وتتناسب مع شخص آخر، أو تحمل احتمالًا آخر تورده "فرجينيا وولف": "النصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة، هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصل إلى استنتاجاتك الخاصة".
التجارب الفردية دائمًا هي القادرة على البقاء والصمود أمام سيل الإخفاقات التي تواجه كثيرًا أصحاب تلك التجارب، لا تدري أهو اختبار لمدى صبرهم وقوتهم، أم أن الاخفاق في حد ذاته يزيد من قوة ومتانة التجربة، فدائمًا ما تكون البدايات بصعوبة التجربة التي يقدم الإنسان عليها، وعالم القراءة صعب ومعقد حد التشابك، فتكمن الصعوبة على حد وصف "فرجينيا" أنه في المكتبة لا توجد سوى تلال ضخمة من الكتب منها الروايات والقصائد وكتب التاريخ والفلسفات والسير الذاتية، كتب صادرة عن كُتّاب بكل لغات الأرض، نراها تملأ الأرفف تزاحم بعضها بعضًا، فأول ما يتبادر إلى الذهن هو سؤال "كيف أقرأ وسط هذا الحشد الهائل من الكتب؟".
الأمر بسيط جدًا حاول أن تنتقي من تلك التصانيف ما تسد به رمقك فقط، ما هو قادر على أن يمنحك الفائدة والمتعة، وفوق كل ذلك أن يضيف لك جديدًا، ففائدة أي كتاب تكمن في المعلومة التي يضيفها لك وفي الأفكار التي يضع خيوطها في يدك، وعليك أن تتعقب بنفسك الخيط حتى يصل بك إلى نهايته، هذا لأن القادم جديدًا إلى عالم القراءة دائمًا ما تسيطر عليه ضبابية المشهد، فيبحث عن الكتاب الذي يخدم فكرته ويمجد كبريائه، ببساطة هو أن يريد أن يملي على الكاتب أفكاره بعدها يحاول الكاتب أن يصيغ له هذه الأفكار في محاولة من القارئ أن يصبح هو الكاتب، فإذا استطاع أن يتخلى عن حضوره أمام الكتاب وأبعد تلك التصورات التي من شانها أن تفسد عليه قراءته، كانت تلك بداية مميزة من شأنها أن تدفع به سريعًا إلى الدخول في هذا العالم، دون أن يكبد نفسه عناءً من شأنه أن يزيد من صعوبة التجربة.
دائمًا ما نبحث في الكتب عما ينقصنا.. كما لو أنها طريق الإنسان إلى الكمال المحلوم
الكتاب كأي شيء في الحياة نبحث فيه عن ما ينقصنا، وهو وسيلة جيدة للبحث عما نريده حقًا، لكن الأهم من ذلك أنه عندما نبحث عن كاتب ما فلا بد وأن نبحث عن شخص يكتب من عالمنا أو بالأحرى واقعنا، لا يملي علينا كتاباته من فردوس سماوي ثم يأمرنا أن نؤمن بتلك الأفكار التي لا تمت لنا وللواقع بصلة، الأفضل أن نقرأ لكتاب يشعرون بمآسينا فيكتبون ما لم نقدر نحن أن نقوله، يكتبون عن أفراحنا التي عجزت كلماتنا أن تخلدها، فنشعر ونحن نقرأ أننا اكتشفنا فلسفة جديدة في الحياة تجعلنا أكفاء في مواجهة التجارب التي تعصف بنا من حين لآخر، فما فائدة الكتب إن لم تعدنا إلى الحياة وتجعلنا نعبُّ من كأسها المترع بالأفراح والآلام على السواء.
اقرأ/ي أيضًا: القارئ في اللانهاية
لعل هذا الكلام أقرب إلى ما قاله "هنري ميللر": "يجب على الشخص عندما يفتتح مشوار قراءته أن يبدأ بالكتب الصادرة في زمانه، وأن يقرأ لمعاصريه، فقد بنيت أنظمتنا التعليمية على الخرافة القائلة بأن على الصغار أن يعرفوا عن كل شيء قادنا لما نحن عليه ومن ثم يباشرون القراءة. قد تكون تلك القاعدة من أكثر القواعد عبثية، فهي تحط من قيمة القراءة وتفقدها مرونتها، وتحجم الخيال وتجعله محصورًا في بوتقة الماضي فتُكتسى القراءة حينها بطابع بالجمود، هذا بدوره كفيل أن يحرمه التواصل مع حاضره ولن يفيق من سباته الروحي المعلق بأذيال الماضي.
القارئ النشط والجيد – بغض النظر عن المعنى الفضفاض لكلمة قارئ – هو الذي يعيد ما يقرأ منطلقًا من القاعدة التي تقول "الصحيح هو عكس كل حقيقة"، فهو يلاحظ التفاصيل الدقيقة ويتابعها برفق، فإذا تعجل في إصدار حكمه المسبق على الكتاب فقد يفضي الكتاب إلى نهاية خاطئة، وسيترك الكتاب قبل أن تتبلور فكرته في عقله وتتتحول القراءة حينها إلى عملية أكثر مللًا ورتابة، فالكتاب الذي نقرأه لأول مرة أشبه بعالم خلق للتو ليس له أية صلة بالعوالم الأخرى التي نعرفها، وكي ندخله لابد وأن نربطه بالعوالم المحيطة به وإلا لن نتمكن من سبر أغواره، وسنبقى معلقين بين احتمالية ولوجه أو الوقوف عند نقطة البداية.
وحده الخيال قادرٌ على أن يعطي للقراءة معنى فهو شيء لا غنى للقارئ عنه، فإذا كان الكاتب أثناء الكتابة يستخدم خياله فمن الطبيعي والعدل أيضًا أن يستخدم القارئ خياله أثناء القراءة أيضًا، بل إن المسألة قد تكون تبادل مشروط بين الطرفين قد يسبب عدم الالتزام بها خللًا، عن تلك المسألة يعلق "فلاديمير نابوكوف": الخيال هو مقياس جمالي متناغم بين عقل القارئ وعقل الكاتب، يجب علينا أن ننعزل وأن نستمتع بذلك الانعزال، قد تكون أنت الجالس هناك مجرد حلم بالنسبة لي، بينما أكون أنا كابوسك الدائم، والخيال لا يتحقق إلا بأن نفهم ذلك العالم الذي صاغه الكاتب في منعزله.
بدون الخيال تفقد القراءة رونقها ويستحيل الكتاب إلى مجرد كلمات لا تتعدى مسماها اللفظي والحرفي
بدون الخيال تفقد القراءة رونقها ويستحيل الكتاب إلى مجرد كلمات لا تتعدى مسماها اللفظي والحرفي بمعناها الضيق، وبه يستطيع القارئ أن يزيل ويفتت الحواجز التي قد تنشأ بينه وبين الكاتب ويحولها إلى جسور ومعابر يصل عن طريقها إلى المعنى الذي يريده الكاتب دون أن يكلف نفسه أي عناء، وقد يجنح به الخيال أن يذهب أبعد من الزمان والمكان الذي تدور فيه أحداث الكتاب، عندما لا يروق له الزمان والمكان الذَين وضعهما الكاتب فينأى بهما ممسكًا بزمام الأحداث يوجهها حيث يريد هو، لا كما يريد الكاتب، فيحدث أن يصل هذا القارئ إلى بعد ومعنى قد لا يصل إليه مؤلف النص نفسه، لذا فالقراءة من غير خيال عديمة الطعم كما لو كانت طعامًا من غير ملح.
اقرأ/ي أيضًا: العرب والقراءة.. ستيريوتايب القطيعة
هو الذي يجعلك كما يقول "هيرمان هيسه" لا تصرخ وأنت تقرأ وتقول "ذئب ذئب"، ويكون الذئب خارجًا في إثرك من الوادي، إنما الخيال هو أن تصرخ "ذئب ذئب" ولم يكن هناك ذئب أصلًا. فهو القادر على أن يجعل معاني الكلمات تتعدل دون أن نشعر بذلك حتى وإن استخدمناها مرات عدة، لتقول بالتحديد عكس ما كنّا نرغب في الحديث عنه، وتظل كما لو كانت صدى لكلمة قد قيلت ولكن صداها لا زال موجودًا.
عالم القراءة عالم على سهولته صعب ومعقد كما أنه مشروع قاس وطويل، كلما أحس الإنسان أنه وصل فيه إلى نهايته أدرك أن النهاية ما هي إلا بداية لنهاية جديدة، كما لو كانت مرض عصبي يتخلص منه الإنسان لكنه لا يبرأ، كما قال سارتر في ثنايا سيرته الذاتية: "إن القراءة لا تنقذ شيئًا ولا شخصًا، إنها لا تبرر ولكنها نتاج الإنسان، إنه يعكس صورته عليها ويعرف نفسه بها، وهي المرآة الناقدة التي تقدم له صورته".
ليست القراءة والكتب بحرًا لا نهائيًا من الأسماك، أو نسمة عابرة تذروها الرياح أو ظل على الجدار، فالتعلق لا يجب أن ينصب على على تلك التشبيهات المجازية التي تقال عنها، بل يجب أن ينصب على الكيفية وكل ما من شأنه أن يكون محفزًا على البقاء والحضور داخل عالمها.
المصادر:
- داخل المكتبة خارج العالم، راضي النماصي
- الكلمات، جان بول سارتر
اقرأ/ي أيضًا: