الانتحار، قد يكون شرارة الثورة التونسية، التي اندلعت منذ خمس سنوات وأطاحت بـ "بن علي" ونظامه، لكنّه اليوم فعل يومي. هذه المرّة، مثل انتحار الشاب رضا اليحياوي، أصيل محافظة القصرين، أحد محاضن الاحتجاجات مجددًا. بدأت الحكاية بعدما أُزيل اسم رضا اليحياوي وزملاء له من قائمة الشبان الذين سيتمّ انتدابهم في إحدى المؤسسات العمومية، وهو ما يكشف حجم الفساد الذي تحمله ملفات التوظيف في الإدارة التونسية، فحتى الأمل الأخير لا يمكن إلاّ أن يُزال أمام أسماء تأتي بتدخلات النافذين من هنا وهناك.
تعتبر القصرين محافظة مهمشة توقفت فيها التنمية تقريبًا وبلغت بطالة أصحاب الشهائد العليا نسبًا مرتفعة
ثورة من جديد؟
احتجاجات عارمة شهدتها محافظة القصرين التونسية، وهي محافظة مهمشة، توقفت فيها التنمية تقريبًا وبلغت بطالة أصحاب الشهائد العليا نسبًا مرتفعة، فيما تبلغ نسبة الفقر مداها، كلّ هذه تعتبر أسبابًا مباشرة لأي تحرّك احتجاجي مهما يكن الطرف الحاكم، فمثل هذه المعطيات لا يمكن إلاّ أن تكون وقودًا لأي تحرّك احتجاجي.
لم تراوح التنمية مكانها رغم الوعود الكبيرة التي تلقاها أهالي القصرين وسيدي بوزيد وباجة والكاف من حزب نداء تونس، والذي يعرف بأنه امتداد للنظام القديم، ورغم ذلك فقد تمّ انتخابه بكثافة في هذه المناطق أملًا في "التنمية المستدامة ومخططات التنمية" وكل لغة الخشب والأكاذيب التي كانت في أولويات الحملة الانتخابية لهذا الحزب.
ثورة أم ليست بثورة ؟ قد يكون هذا الهمّ الأكبر لسياسيي اليوم، فالمعارضة تنتظر أن تكون ثورة لكي تغتنم الفرصة وتنادي بإسقاط نظام هم شركاء فيه بشكل أو بآخر، إذ إنها معترفة بالانتخابات وشاركت فيها ولكنها لم تنل مقاعد تذكر فيما تريد السلطة. أما أصحاب المراكز فينفون تلك الصفة عن التحركات والاحتجاجات حتى أن هناك من يتحدّث عن المؤامرة فيما لا يحتاج الأمر لمؤامرات، فالبطالة خزان قابل للدفع بالآلاف للاحتجاج في هذا البلد لعشرات السنوات ما لم يتغيّر الوضع التنموي.
قد تكون "ثورة ثانية"، كما يرى عدد من المنتمين لبعض التيارات السياسية وتمثل حلمًا للوصول إلى السلطة ولكن اعتبار أن ما يحدث الآن ثورة ثانية يثبت تناقضًا لدى هذه التيارات التي تعتبر ثورة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 مستمرة إلى أن تحقق أهدافها في الحرية والكرامة والتشغيل.
اعتبار احتجاجات القصرين "ثورة ثانية" يعني تناقضًا مع من يعتبر أن ثورة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 مستمرة إلى أن تحقق أهدافها
هنا يجب القول بأن ما يحدث ليس إلا حراكًا ثوريًا طبيعيًا في دولة لم يفارقها الفساد في التشغيل وما على الأطراف السياسية إلاّ التعامل معه بمنطق المساندة للمطالب والاحتجاجات المشروعة، فيما يبقى الركوب على الأحداث من أجل تصدّر قيادة ما يسمّى بالثورة الثانية بعيد المنال، إذ إنّ الشباب الثوري لن يبقى مكتوف الأيدي إزاء متاجرين جدد بقضاياه.
أي مآل للأحداث؟
لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأوضاع في تونس بعد موجة الاحتجاجات في القصرين ولكنها أقرب لأن تكون محفزة لهذه الحكومة من أجل اتخاذ إجراءات حقيقيّة وإن كانت استراتيجيًا "ترقيعية" وغير قادرة على إعطاء حلول جذرية للتهميش والتفقير، ولكنها ستعمل على أن تكون هناك حلول، إذ إنّ المعارضة تتربّص من كل جهة معلنة ثورة لا تبقي ولا تذر، فيما لا تعدو هذه الدعوات إلاّ ممارسة لتحسين شروط التفاوض مع الحكومة في الحقيقة.
بعد التحوير الوزاري الأخير، لم تنل المعارضة أي منصب وهذا لا يعني أنهم يريدون مكانًا في السلطة فالمعارضة في هذه الأوقات العصيبة في وضعيّة مريحة، تعيد ترميم القاعدة الشعبية لها، ولكن التعيينات في الإدارة هي الهدف الأكبر لسياسيين لم يروا في شباب يحرق نفسه إلاّ فرصًا للركوب على مطالب مشروعة قد تحسّن شروط التفاوض وقد توصلهم للسلطة وقد تقلب الطاولة على الطبقة السياسية برمتها. في المقابل، يأخذ الشباب زمام الأمور وتنشأ حركة شبابية شعبية كافرة بالأحزاب تواصل ثورة قيميّة لا احتجاجية فقط ترسم نهضة بلد بنصف ثورة وأنصاف حلول.
اقرأ/ي أيضًا: