عندما كنت صغيرًا طلبت منّي إدارة المدرسة جلب الدفتر الأحمر والدفتر الأزرق، أعطاني أبي الدفتر الأحمر، الذي هو دفتر العائلة للفلسطينيين المقيمين في الجمهورية العربية السوريّة، وقال لي: لا يوجد لدينا دفتر أزرق فنحن مسجّلون في الوكالة ولكن دون حقوق لأنّنا قدمنا بعد تاريخ معيّن ربّما بيوم أو يومين.
زملائي اكتشفوا أنّني فلسطينيّ، ولأنّه كان عام 1966 فقد تعاطفوا معي كأنّني طُردت من بيتي قبلها بيوم. (كنّا نقطن في حيّ وسط دمشق وليس في أحد المخيّمات) كان المزاج الشعبيّ العربيّ متعاطفًا مع الفلسطينيين بقوّة، فكانوا يُساعدونهم دون تفكير، يسمحون لهم بمشاركتهم أعمالهم، ويؤمنون بقدراتهم وتميّزهم ويُشجّعونهم.
أمّا الحكومات العربيّة فقد كانت تتخبّط ولا تدري ماذا تفعل بكلّ هؤلاء اللاجئين، وطلبت من الأمم المتّحدة معاملتهم معاملة خاصّة نظرًا لخصوصية أوضاعهم، ورفضت وضعهم تحت حماية المفوضّية العامة لحماية اللاجئين، وطلبت أن تقوم لجنة التوفيق الخاصّة المشكّلة في 11/12/1948 بالإشراف عليهم وحلّ مشكلتهم، وكانت تلك اللجنة قد شُكّلت للإشراف على تنفيذ القرار رقم 194، الذي اشتهر لاحقًا باسم قرار حقّ العودة، وتنصّ المادة الحادية عشرة منه بوضوح شديد على حقّ العودة للفلسطينيين وتعويضهم عن خسارة ممتلكاتهم وأعمالهم، أي أنّه ينصّ على العودة والتعويض وليس العودة أو التعويض.
اغتالت العصابات الصهيونية الكونت برنادوت في أيلول/سبتمبر من عام 1948 بعد أن أكد في تقريره على حقّ العودة وعلى أنّ القدس مدينة عربية. وتراجع دور لجنة التوفيق حتى اضمحلّ تمامًا، وصارت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" هي المسؤولة عن شؤون الفلسطينيين اللاجئين في دول الجوار.
لطالما تعاملت الحكومات العربية مع الموضوع الفلسطينيّ على أنّه يخصّها هي، ولم يحدث أن فكّرت في معرفة رأي الفلسطينيين في أي شأن من شؤونهم
لطالما تعاملت الحكومات العربية مع الموضوع الفلسطينيّ على أنّه يخصّها هي، ولم يحدث أن فكّرت في معرفة رأي الفلسطينيين في أي شأن من شؤونهم. حملت الحكومات والقوى العربية "القضية" الفلسطينية في كلّ المحافل الدولية والإقليمية، وخاصةً المحليّة، حيث كان موضوع تحرير فلسطين شمّاعة يتعلّق عليها كل تقصير من هذه الحكومات تجاه شعوبها.
وفي منتصف الستّينات ظهرت منظّمة التحرير الفلسطينية، ثمّ الفصائل الفلسطينيّة المسلّحة، وظهرت الكثير من الإشكالات في علاقة المنظّمة والفصائل مع الدول العربية المضيفة، وكل ذلك كان ينعكس على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين. وعندما قرّر مجلس الجامعة العربية أنّ منّظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطينيّ، بدأت محاولات السيطرة على المنظّمة واستخدامها ورقة في يد الأنظمة العربية تُساوم بها بعضها البعض أو تستخدمها في علاقاتها الدولية. فشلت محاولات السيطرة على القرار السياسيّ لمنظمّة التحرير، ونجحت الحكومات في معاقبة اللاجئين الفلسطينيين على مواقف قيادة منظّمتهم، جميع الدول العربية تقريبًا لم توقّع على اتّفاقية جنيف الخاصة باللاجئين لعام 1951 وظل تعاملها مع أوضاع اللاجئين الفلسطينيين خاضعًا لمزاجها وتغيّرات سياسية محليّة أو دوليّة.
أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ظلّت طوال الوقت بالغة السوء حيث أنهم ممنوعون من العمل في كل المهن "الراقية" ربّما تدرس الطبّ أو الهندسة ولكنّك لن تكون طبيبًا أو مهندسًا أبدًا ما دمت لاجئًا فلسطينيًا في لبنان. الحكومة اللبنانية اعترضت حتّى على بروتوكول الدار البيضاء الخاص بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية. وفي عام 1991 تمّ تهجير أكثر من 400 ألف فلسطيني من الكويت ودول خليجية أخرى عقابًا على موقف منظّمة التحرير المؤيّد للعراق في ذلك الوقت. وهناك تفاصيل كثيرة وحوادث ومواقف عديدة عن أوضاع الفلسطينيين في الدول العربية ليس أقلّها أنّهم لا يحملون سوى وثائق سفر مؤقّتة يُمكن إلغاؤها في أي وقت، حتّى أنّ حملة وثائق السفر المصرية يحتاجون إلى تأشيرة عودة وإلاّ سوف يعلقون خارج مصر إلى الأبد.
مع كلّ هذا التعامل الرسميّ مع الفلسطينيين كان كل هؤلاء لا ينفكّون يصرخون باسم فلسطين، ويحملون "عبء" القضية الفلسطينية، لا أدري كيف يُمكن الفصل بين فلسطين والفلسطينيين، وما هي "القضية" التي يُدافع عنها كل هؤلاء. القضية الفلسطينية هي شعب اقتلع من أرضه، 750 ألف أُجبروا على مغادرة بيوتهم وأراضيهم. هي قضية شعب وأرض، وحلّها واضح: حق العودة، ينتهي الأمر بأن يعود هذا الشعب إلى أرضه. فما الذي فعله كل هؤلاء الصارخين من أجل "القضية" والقدس وطريق القدس وتلبية نداء الأقصى سوى المزيد من التنكيل والتضييق على الفلسطينيين؟
وبالعودة إلى البداية، بعد سنوات من إدراك معنى دفتر العائلة الأحمر الذي كان يختلف عن دفاتر عائلات السوريين، ما زلت إلى اليوم لا أنسى زميلي السوري في الجامعة الذي طالبني باحترام النظام لأنّه "البلد العربيّ الوحيد الذي أعطى الفلسطيني حقوق السوريّ نفسها" وأنا أتساءل: وما هي حقوق السوريّ التي "تُمنّني" بها يا صديقي؟".