يعرّف القطاع العام على أنه النشاطات الاقتصادية القائمة على أساس ملكية الدولة لرأس المال والمنتجات. وهو مصطلح حديث، ظهر مع ظهور الدولة الحديثة. وهذا ما يجعله ذا علاقة وطيدة بمؤسسات الدولة الرئيسية، التي تشكل العمود الفقري للدولة.
يتداخل السياسي وما يلحقه من سلطة أمنية في القطاع العام الفلسطيني في محاولة لتطويعه لصالح تيار سلطوي
في الحالة الفلسطينية، أتى القطاع العام بعد اتفاقية أوسلو في عام 1993، التي انبثقت عنها السلطة الوطنية، وهو قطاع يتكون من الجانب الخدماتي والأمني بشكل أساسي، كما تشير إلى ذلك موازنة السلطة الفلسطينية.
اقرأ/ي أيضًا: الحكومة لا تنسى خصومها.. تقاعد انتقاميّ من معلمين
ويعتمد الجانب الخدماتي في القطاع العام على الموظفين بشكل مباشر، وهذا النوع من الأعمال، يسهل فيها التعيين بناءً على الكفاءة أو المحسوبية الحزبيّة أو الواسطة، كما يسهل فيها الفصل من الوظائف على الأسباب نفسها.
وهنا، سنتطرق إلى قضيتين شغلتا الحيز العام الفلسطيني كثيرًا، وهما: إحالة مجموعة من المعلمين للتقاعد الإجباري على خلفية مشاركتهم في احتجاجات نقابية عام 2016، والعقوبات المفروضة على قطاع غزة منذ بداية عام 2017 وحتى اللحظة.
ويظهر في الحالتين، كما سيتضح، تداخل السياسيّ وما يلحقه من سلطة أمنية في المجال العام، ومحاولة تطويع الأخير لصالح تيار سلطوي، يمسك بزمام الحكومة والقطاع العام. وعبر سياسة "قطع الأرزاق" في حالة الضفة أو "العقوبات" في حالة قطاع غزة، يحاول صاحب السلطة السياسية وأد أية معارضة أو رأي مخالف لرأيه.
إحالة قادة الإضراب النقابي للتقاعد الإجباري
في كثير من دول العالم، وبسبب تعرضها لأزمات اقتصادية باستمرار، أصبح المواطنون أميل للعمل لدى القطاع العام، كونه يوفر "أمانًا وظيفيًا" لا يجعله عرضة لما يتعرض له القطاع الخاص من الإفلاس أو الانهيار. بالإضافة لوجود العديد من الميزات في القطاع العام كمعاش التقاعد، والتأمين الصحي، وغير ذلك.
إلا أن الأمر لدى السلطة الفلسطينية كان مختلفًا، ففي شهر آذار/مارس من العام الجاري، تم إحالة 863 معلمًا فلسطينيًا للتقاعد الإجباري. وعلى الرغم من أن وزارة التربية والتعليم برّرت هذا الإجراء بأسباب مهنية، كتقديم بعضهم لطلبات من أجل التقاعد المبكر، أو على خلفية أسباب صحية وفنية تستند على أداء المعلمين. إلا أن المعلمين أنفسهم، وكثير غيرهم، يرون أن هذا الإجراء جاء ردًا متأخرًا على الإضراب الذي خاضه المعلمون في عام 2016 ضد الحكومة، للمطالبة بحقوقهم النقابية.
وعبر الانتخابات، اختار حراك المعلمين ممثلين عنه ومتحدثين باسمه في كل محافظة من محافظات الضفة الغربية. كان من بين ممثلي الحراك: المعلمة رجاء جبر، والمعلم أمين الصوص، والمعلم صامد صنوبر. والذين كانوا جميعًا من بين من أحيلوا للتقاعد الإجباري في عام 2018.
التقى "ألترا صوت" بالمعلم صامد صنوبر من مدينة نابلس، وهو من أشهر من تحولت قضيته لقضية رأي عام فلسطينية، كونه كان أبرز متحدثي الحراك في عام 2016.
وحول تدخل السياسي في القطاع العام والشأن النقابي، يقول صامد صنوبر: "التدخل واضح، وهو تدخل من أجل السيطرة والقمع، وهذا شيء لامسناه من خلال حراك المعلمين، قبل أن يأتي قرار الإحالة للتقاعد". ويوضح صنوبر أن من أهم مظاهر التدخل، أساليب الترغيب والترهيب التي كانت تستخدمها الأجهزة الأمنية في محاولة إقناع قيادة الإضراب من أجل العدول عن مطالبهم الحقوقية.
بالإضافة إلى نصب الحواجز العسكرية على مداخل ومخارج المدن، من أجل منع وصول المعلمين إلى أماكن الاحتجاج، التي كانت مقررة أمام المؤسسات الحكومية كوزارة التربية والتعليم ورئاسة الوزراء. كما كان هناك محاولة لتسييس الإضراب، وصبغه فصائليًا، بالرغم من أنه كان مطلبيًا تمامًا، ولم يتم رفع أي راية حزبية، أو الهتاف لأي حزب سياسي.
ويوضح صامد صنوبر لـ"ألترا صوت" أنه تم ملاحقته شخصيًا، كونه أحد المنتخبين في قيادة الإضراب، فتم استدعاؤه أكثر من مرة لجهازي المخابرات والأمن الوقائي في مدينة نابلس، كما تم استدعاؤه لمقر الأمن الوقائي في رام الله. بالإضافة إلى اعتقالهم في إحدى المرات أثناء جلسة تفاوضية في أيام الإضراب. وقد تلقى تهديدًا مباشرًا من رئيس جهاز الأمن الوقائي في مدينة نابلس في أيام نشاط الحراك النقابي.
في آذار/مارس الماضي أحالت السلطة الفلسطينية 863 معلمًا للتقاعد الإجباري على خلفية مشاركتهم في إضراب المعلمين في 2016
وبالرغم من انتهاء الحراك، إلا أن التضييقات والملاحقات لصامد وزملائه لم تنته. فتم نقله تعسفيا من مدرسته الثانوية، إلى مدرسة أخرى أساسية، المرحلة الدراسية الأولى، كما تم استدعاؤه مع رفاق في الحراك إلى وحدة الجرائم الإلكترونية، في مقر الأمن الوقائي في بيتونيا برام الله، من أجل التضييق عليهم على خلفية منشوراتهم على فيسبوك. وفي الرابع من شهر آذار/مارس 2018، وصل قرار الإحالة للتقاعد الإجباري لصامد صنوبر.
يشير صامد صنوبر إلى أنه أب لطفلين، وعليه التزامات مالية، وأن المباغتة في القرار، تعكس "نهجًا سيئًا" لدى النظام السياسي، "لا يحترم الجانب الإنساني لدى مواطنيه، ولا الجانب التعليمي، الذي حرم الطلاب من معلمهم في وسط الامتحانات نصف الفصلية"، وليس غريبًا أن يضرب الطلبة لأكثر من عشرة أيام عن الالتزام بالحضور إلى المدرسة بسبب تغيب معلمهم.
اقرأ/ي أيضًا: التقاعد القسري ينتظر نصف موظفي القطاع العام
ينهي صامد صنوبر حديثه قائلًا: "ما حصل هو تدخل للسياسي وأجهزته الأمنية في القطاع العام، ومن أجل وأد العمل النقابي، والاعتراض الحر. وإحالتي للتقاعد، هي رسالة لكل النشطاء النقابيين في مختلف القطاعات الحكومية، أن هذا مصير من يرفع رأسه".
العقوبات على غزة
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وما تبع ذلك من تضييقات داخلية وخارجية، عرقلت الانتقال السلمي للسلطة وتقاليد الحكم، ما أدى في النهاية إلى الانقسام الفلسطيني في حزيران/ يونيو 2007. تعمّقت الخلافات إلى الحد الذي أصبحت فيه التجاوزات في حق القطاع العام معتادة.
ففي عام 2009 قامت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي باتت حركة فتح تسيطر عليها بشكل علني ومباشر، بفصل عشرات الموظفين في شتى الوزارات على خلفيات سياسية وأمنية، معظمهم من وزارة التربية والتعليم، أعيد بعضهم إلى السلك الوظيفي، فيما لا يزال البعض الآخر يعاني من التمييز على خلفية تأييده لأحزاب معارضة حتى اللحظة.
في المقابل عيّنت حركة حماس ما يزيد على 42 ألف موظف، منذ سيطرتها على القطاع المحاصَر إسرائيليًا وعربيًا. يعملون في شتى الوزارات والمؤسسات الحكومية، بشقيها المدني والأمني.
ولا يخفى على المتابع أن حركتي الانقسام اتبعتا النهج ذاته في التوظيف والفصل والإحالة للتقاعد المبكر. ففي الضفة الغربية أصبحت الوظائف مقتصرة على مؤيدي السلطة وحركة فتح بشكل خاص، وبالتحديد الذين يريدون الانتساب للأجهزة الأمنية. وفي غزة اقتصر التوظيف على أبناء حركة حماس.
في شهر أبريل/نيسان 2017 الماضي، وبعد تهديدات كان قد أطلقها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس فيما سبق، أقدمت الحكومة على اقتطاع 30% من رواتب موظفي غزة. كما توقفت الحكومة برئاسة رامي الحمد الله عن دفع فاتورة الكهرباء الواردة للقطاع عبر الخطوط الإسرائيلية، كما قلصت التحويلات الطبية الخارجية.
وكان مبرّر السلطة الفلسطينية وراء فرض هذه الإجراءات، تشكيل حركة حماس للجنة إدارية، تقوم بإدارتها حركة حماس، في ظل تعطيل المجلس التشريعي والحكومة في قطاع غزة. ولكن جميع هذه الإجراءات كانت تمس بالمواطن الغزيّ العادي، وجعله مرة أخرى ضحية للانقسام الفلسطيني والحصار الإسرائيلي معًا.
وعلى الرغم من أن حركة حماس قامت بحل اللجنة الإدارية في أيلول/سبتمبر من العام ذاته، إلا أن العقوبات ما زالت قائمة حتى اللحظة. كما أن هذه العقوبات زادت من معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، وانخفاض القدرة الشرائية لمواطني غزة بنسبة تصل حتى 60%.
80 % من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الإغاثية بشكل أساسي، كما أن متوسط دخل الفرد في غزة 3 دولارات فقط!
وبحسب تقرير صدر عن اللجنة الشعبية لكسر الحصار في شهر أبريل/نيسان الماضي، فإن 80% من سكان قطاع غزة يعتمدون على المساعدات الإغاثية التي تقدمها الهيئات والجهات الدولية، فضلًا عن تدني مستوى الأجور، إذ قال التقرير إن متوسط دخل الفرد الغزيّ يصل إلى ثلاثة دولارات فقط.
اقرأ/ي أيضًا: