في لبنان، حيث تكثر الأحزاب والتيّارات والحركات السياسية، التي هي تعبير عن الإقطاعات الطائفية السياسية بالضرورة، تعتبر أية محاولة إصلاح اقتصادية حربًا ضارية بين هذه التيارات، فالجميع يريد أن يكون المحرِّك الرئيسي لهذه التغييرات، فتواجَه جميع مقترحات هذه الإصلاحات الاقتصادية بالتهميش في النهاية.
تتجلى معظم المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، في تفشي الفساد بشكل كبير داخل القطاع العام
فساد متزايد
وتتجلى معظم المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان في تفشي الفساد في القطاع العام، فقد حصل لبنان على 28 نقطة من أصل 100 في قياس مؤشر مدركات الفساد للعام الماضي، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
ومن أصل 180 دولة شملها المؤشر، احتل لبنان المرتبة 143، ليُسجل بذلك تراجعاً مقارنة مع العام الذي سبقه، إذ كان يحتل المرتبة 136 من أصل 176 دولة.
ويقيس هذا المؤشر مدى إدراك المجتمع للفساد في القطاع العام، مانحاً نتيجة من صفر إلى 100 نقطة. وكلما اقتربت الدولة من نتيجة صفر عكس ذلك ارتفاعاً في مستوى الفساد لديها. إضافةً إلى الفساد، يظهر عجز واضح في القطاع العام بعد أن ارتفع مجموع الدين فيه من ثلاث مليارات دولار في عام 1992 إلى أكثر من 110 مليار دولار في أواخر 2015.
عجز مائي
وتمثلت نتيجة تفشي الفساد والعجز، في فشل القطاع العام في تأمين الحاجات الأساسية للمواطن، ومن ضمن هذه الحاجات المياه. ففي دراسة حديثة نسبيًا عن قطاع المياه في لبنان، أنجزها مركز الدراسات الاقتصادية بفرانسبنك، تحت عنوان: "السياسات والإجراءات المطلوبة لمواجهة تحّديات الأمن المائي في لبنان"، كانت نتيجتها أن لبنان يشهد عجزاً مائياً متزايداً خلال السنوات المقبلة، مع زيادة في الطلب على المياه، وثبات في حجم عرض المياه.
ومن المتوقع زيادة الطلب على المياه من نحو 1.5 مليار متر مكعب في 2015 إلى 1.8 مليار عام 2035، ما سيزيد العجز المائي من نحو 291 إلى 610 ملايين متر مكعب خلال الفترة نفسها.
وتشير الدراسة إلى أن المشكلات الأساسية التي يعاني منها قطاع المياه، تتمثل أساسًا في الاستثمار الضعيف من قبل القطاع العام في المياه والصرف الصحفي، والذي لا يتجاوز 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي، مع غياب التخطيط الوطني الشامل، والسياسات الملائمة لاستغلال واستخدام وحفظ وتنمية الموارد المائية، إضافةً للتشريعات القديمة التي تحكم قطاع المياه، وضعف آليات تطبيقها.
الكهرباء.. المشكلة الأزلية
ويتجاوز فشل القطاع العام في لبنان من قطاع المياه والصرف الصحي، إلى الخدمات الخاصة بالطاقة الكهربائية، أكبر المشكلات الخدمية التي يعانيها اللبنانيون.
ويتنازع قطاع الكهرباء في لبنان فريقان، أولهما القطاع العام، الذي يتمثل بمؤسسة كهرباء لبنان، التي تحاول عبثاً وقف الانحدار المستمر في مستوى الخدمة من خلال تقنين ساعات مد الكهرباء بطريقة متساوية بين جميع المناطق.
غير أن هذه السياسة غير المُخططة، دفعت المواطنين مضطرين للجوء إلى وسائل بديلة تؤمن لهم حاجاتهم من الكهرباء، وهنا يظهر الفريق الثاني، متمثلًا في القطاع الخاص أو المولدات الكهربائية الخاصة، والتي انتشرت عشوائياً وبشكل غير مقنن على مساحة الأراضي اللبنانية، لتعويض نقص التغذية الكهربائية من مؤسسة كهرباء لبنان التابعة للقطاع العام .بهذه الطريقة، بات المواطن اللبناني مضطرًا لدفع فاتورة الكهرباء مرتين، مرة للدولة، ومرة لأصحاب المولدات.
ولنحو 40 عامًا، لم تستطع الدولة إيجاد حل لمشكلة الكهرباء ضمن إطار القطاع العام، ما دفع البعض إلى التشكيك في نوايا الدولة في هذا الجزء من خدمات القطاع العام، أن تكون راغبة في إبراز فشل القطاع العام في توفير خدمة الكهرباء بشكل تام، وصولًا غلى خصخصته في كل منطقة على قاعدة المحاصصة، أي توزيع الحصص على مناطق كل حزب وتيار. وبطبيعة الحال سيسهم وضع القطاع المتردّي ببيعه بثمن أقل بكثير من ثمنه لو كان من القطاعات الرابحة.
خصخصة التعليم
أما بالنسبة لقطاع التعليم، فتقدم الجامعات والمدارس الخاصة خدمات ومستوى تعليمي أفضل من الذي تقدمه المدارس والجامعات التابعة للقطاع العام الحكومي، وهذه ظاهرة منتشرة في أغلب الدول العربية، وليس في لبنان وحده.
ومن ضمن المشكلات التي تعاني منها المدارس والجامعات التابعة للقطاع العام، تدني مؤهلات الكادر التعليمي والإداري في المدارس، وعدم تطابق اختصاصات المعلمين مع الحاجات المطلوبة، وهو أمر يعود للمحسوبيات والواسطة التي تتجلى في صورة عدم تعيين أساتذة كفء، وإنما اختيار الأساتذة التابعين لأحزاب وتيارات معينة، فضلاً عن سيطرة الأحزاب على الجامعة اللبنانية أيضاً.
يبدو أن الدولة والمسؤوليين في لبنان، يفضلون التخلي عن دورهم في تطوير القطاع العام، مع ميلهم أكثر نحو الخصخصة
ولعل تصريح رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، في نيسان/أبريل الماضي، الذي قال فيه إن "القطاع الخاص يدير الأعمال بشكل أفضل من الدولة"، خير دليل على عدم رغبة الدولة في تطوير القطاع العام وتطوير خدماته، في مقابل ميلها نحو الخصخصة.