اليتيمة هو الاسم الذي أطلقه الشارع الجزائري من مثقفين وعوام على قناة التلفزيون الوطني، على اعتبار احتكار دولة الحزب الواحد والرئيس الواحد لآلة صنع وتوجيه الرأي العام، وكما هو معروف فاليتيم هو من فقد الأب وهذا لم يكن مقصد الشارع في تسميته للتلفزيون الوطني، فالشارع الجزائري يُطلق تسمية اليتيم على من يراه وحيدًا، وهذا كان مقصد الشارع من التسمية أي أنها القناة الوحيدة التي يُخاطِب بها الشارع وتنقل له ما تريده الدولة أن يكون الحقيقة.
إن قوة الإعلام في توجيه أو صناعة الرأي والإعلام الجزائري في معظمه إعلام فاسد ترعاه أياد غير آمنة
إلا أن الدولة وبعد مخاض عسير سببته المطالب الملحة بفتح سماء "السمعي البصري"، وُلدت لليتيمة أخوات، لكنهن جئن من زواج غير شرعي بين دولة ومال فاسد، فكانت "القنوات اللقيطة" لتُؤنِس اليتيمة وحدتها في صنع وتوجيه الرأي العام، حسب مطامع دولة يُقال عنها إنها دولة عميقة، ويكنّ الرماد الذي يُذر في عيون المطالبين بحرية التعبير وحرية البحث عن الحقيقة ونشرها لتغيير واقع طال حاله.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة ثقة بين الجزائري وإعلامه
ولأنهن "لقيطات" لأب تعمد إخفاء أنهنّ بناته، فقد علمهنّ قبل ذلك صنيعة الشارع، وكيف يكسبن قوة يومهن، علمهنّ كيف يهوى الشارع أخبار المقاهي وأحاديث قاعات الحلاقة وحوارات المقاهي تحت ضباب السجائر ولأجل ذلك جعلت "اللقيطات" من العامية المشوّهة لسانًا لها، ومن أسرار البيوت "تابوهات" يجب أن تُهتك أستارها، ومن الشعوذة والمشعوذين عيادات تزار ويُستبرك بها، ومن أشباه الشيوخ علماء ودعاة يُفتون في الحلال والحرام وأغلب مقاطعهم باليوتوب تسبقها عبارة "مقطع مضحك للشيخ فلان" أو "اضحك مع الشيخ علان.." ومن رواد الملاهي مثقفين يشار لهم بالبنان ويُنهل من شطحاتهم أسلوب حياة.
وأُغدق على هذه القنوات من كل أنواع الإعلانات، هذه الأخيرة التي كان حظ الشارع منها تعبئة البطن وفقط، فتُحصي كل أنواع المُشتهيات، وتجد كل صنوف القهوة "ثلاثية التركيز"، ومئات علامات الصابون ذات القوة الزرقاء وكأنك بمخبر كيميائي أُعد لغسيل الأدمغة وصولًا لجيب المواطن، وكلها كذب في افتراء وضحك على الذقون، فلا تكاد تجد سلعة واحدة منها أنتج بالجزائر فكلها مستوردة ويتم إعادة تغليف الحقيقة وتسميتها بأسماء جديدة فتصبح "منتوج بلادي". وعن حظ الثقافة فهي وإن زرعت بذرة في العقل لتنمو أفكارًا فتتبعها بسموم تجعل جنين الفكرة مشوهًا وتسقطه قبل الكمال بجرعة زائدة من لغة الخشب.
"لقيطات".. استطعن أن يملكن المعلومة والخبر وحصريته حتى قبل القناة الوطنية، وإن كذبها لجلي واضح، فبالأمس القريب خرجت إحداهن تذيع أنها تملك وثائق تُجرم وزير سابقًا، وتُثبت فساده، وهاهي الآن ذات "القناة اللقيطة" ترعى حملة سيادته للأيادي النظيفة التي يجول بها البلاد بطلًا قوميًا سيُخرج بها الجزائر من الأزمة النفطية.
اقرأ/ي أيضًا: تسريبات بنما ترعب العدالة والإعلام في الجزائر
كنت لوقت ليس ببعيد أضحك من هذا الكذب الواضح المكشوف لـ"لقيطات" وُلِدن بالأمس، ورأيت أنها مسخرة وتضييع مال وجهد، إلا أنني كلما ركبت سيارة أجرة أو قصدت حلاقًا، إلا واستمعت لأحاديث الشارع الذي كان يضحك من "اليتيمة"، يكرر أكاذيبهن ويجعل منهن مصدر معلومة موثوقة وحصرية، تيقنت أن "اللقيطات" استطعن تخريب الرأي العام، تذكرت حينها مقولتين لوزير الدعاية زمن هتلر "جوزيف غوبلز" اللتين يقول فيهما "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" وقال "والدعاية الناجحة يجب أن تحتوي على نقاط قليلة وتعتمد التكرار".
لا أعلم هل تكرار الكذب هو ما جعل الشارع الجزائري يصدق، أم أنه يهرب من واقع أليم، يخاف مواجهته أو أنه جزء من الكذبة، على كل حال فقد استطاعت الجهة الوصية في الدولة العميقة أن تجعل الخبر الصحيح معتلًا والخبر اليقين خبر كان، وتوجيه بوصلة الشارع في بحثه عن الحقيقة، عن مكمن الخلل إلى البحث عن مسكن لآلام حقيقة الواقع الموجعة وهي بذلك جعلته يرضخ لسلطة الواقع، ويبقى تحت السيطرة إلى أجل مسمى.
إن قوة الإعلام في توجيه أو صناعة الرأي حقيقة، وحقيقة أخرى لا يجب أن نغفلها هي أن هذا الإعلام، في أغلبه في الجزائر، إعلام فاسد، فإعلامنا ترعاه أياد ليست آمنة.
اقرأ/ي أيضًا: