حملت الثورة العربية ما خفي واستكان، فأظهرت ما كان غير بيّن بمقياس رؤية تتغيّر أو تُحجب بحسب الزّاوية. وممّا حملته الثّورة وكشفته، إما برفع لغطاء ما هو معلوم أو تعرية لما كان بحقيقته مجهول، مصيبة القومجيين العرب والوصف المذكور هو لتمييزهم عن القوميين كما عُرفت الفكرة وعُرف روّادها على الأقلّ. فالتمييز هو من باب عدم الزيف وردّ الطعن. فإن كان يُقال إن الإسلاميين هم طيف يمتدّ اليوم من البغدادي لأردوغان، فمن باب العدل في التفريق بين قومي وقومي بين قوميين وغيرهم أن يُقال كذلك بأن القوميين هم طيف يمتدّ من المفكر عزمي بشارة إلى سفّاح العصر بشّار الأسد.
لم يوجد خطر يهدّد الأمّة العربية من داخلها كما مثّله ولا يزال من يتحدّثون باسمها
وربّما لم يوجد خطر يهدّد الأمّة العربية من داخلها كما مثّله ولا يزال من يتحدّثون باسمها. إنهمّ أولئك الذين يرفعون شعار وحدة الأمّة العربية وهم الذين فتّتوا أقطارهم وشرّدوا شعبهم. هم حطب هذه الأمّة. ويمثّل النظام البعثي في سوريا المثال الحيّ لدعاة القومية الذين يتاجرون بشعارات الوحدة والممانعة ومقاومة المؤامرة الصهيوصليبية من أجل حماية مصالحهم بالحديد والنّار في مواجهة الأحرار الذين خرجوا ليطالبوا بحقوقهم وحرياتهم. وتلك هي السنّة التي ورثها الأسد الابن عن والده. وينطبق نفس الحال على نظام القذّافي الذي وصفه عبد النّاصر بـ"أمين الأمّة".
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. هل هي عودة إلى الدكتاتورية؟
لقد سقطت ما سمّيت أنظمة محور الممانعة في امتحان سيادة الشّعب، حيث توجّهت الجيوش التي قيل إنها مرابطة لمواجهة أعداء الأمّة إلى المدن المعزولة المنتفضة من أجل تركيعها. باسم وحدة الأمة وحمايتها، قتلت الأنظمة القوميّة من المواطنين العرب ما لم يقتله الصهاينة. وتجلّى الوجه المخفي وراء عباءة تأكّد زيفها.
بانت قومية مزيّفة، حيث بالتّتابع مع انحراف اتجاه البندقية التي لطالما تمّ التغنّي بها، انكشفت جهارًا أعمدة هذه الأنظمة في تناقض مع مستلزمات التأسيس للفكرة القومية. نظام طائفي في سوريا وآخر قبلي في ليبيا، ولذلك يجيء الطرح، هل هو الارتداد الطبيعي للفكر القومي في تأطيره المحلّي أم انحراف متجاوز للفكر بل هو بمتعدٍّ عليه؟ حيث فشلت هذه الأنظمة في بناء كيان قطري على جادّة وحدة الأمّة العربية من مشرقها لمغربها. وكشفت الثورة العربية نسيجًا لشبكات مصالح لعصابة أقرب منها لنظام حيث رُهنت الدّولة. وهو ما جعل كلفة الثورة على هذه الأنظمة فادحة مقارنة بالأنظمة العربية الأخرى في تونس ومصر.
لم تكتف الأنظمة القومجية برهن الدّولة في مواجهة الشعب، بل في رهن السّيادة الوطنية
والأنكى أن هذه الأنظمة القومجية لم تكتف برهن الدّولة في مواجهة الشعب، بل في رهن السّيادة الوطنية وهي التي صدّعت آذاننا طيلة عقود بتمثّلها كحجر أساس لها. في سوريا، انكشف نظام طائفي في الداخل يستقوي بدول من الخارج حتى باتت هذه الدّول هي الحاكمة في سوريا، وبات بشار الأسد مجرّد حاكم محلّي تابع. وتكتمل هذه السخرية بطرافة بالغة حينما يدرج النظام البعثي اللغة الروسية في المناهج الدراسية. كما لم يعد يحرج القيادات السياسية والعسكرية في إيران بالتصريح علنًا على اعتبار النظام السوري هو جزء من النظام الإيراني الخميني الجامع بين الإمامة المذهبية والقومية الفارسية.
اقرأ/ي أيضًا: من فقه الثواب إلى فقه العقاب
إن أصحاب هذه الملّة أي القومجيين ممّن حملوا السلاح ضد المواطنين العزل بات من باب التجريد وصفهم بالإرهابيين. والفرق بينهم وبين من حملوا السّلاح تحت عناوين الخلافة المنشودة، أن إرهاب الملّة الأولى يستعمل آلة الدولة فيما ينطلق إرهاب الملّة الثانية من خارج الدّولة. ولذلك فإرهاب القومجيين في سوريا، وقبلهم في ليبيا، هو إرهاب دولة مؤدلجة أساسًا.
تتطهّر الأمّة العربيّة اليوم من القومجيين، الذين قتلوا أبناءها واغتصبوا أرضها وباعوا سيادتها، وبذلك فهي تتطهّر من سرطان يسكنها منذ عقود. لقد حملت الثورة العربية عناوينها، وهي الحريّة والكرامة والسيّادة الوطنية كخطوط متلازمة، حيث لا مجال لمقاومة عربية حقيقية دون استرداد كرامة المواطن العربي، ولا تحرير لأي شبر في الوطن العربي من المحتلّ قبل تحرير المواطن من براثن الاستبداد والفساد. فالمقاومة عرجاء دون حريّة، والحريّة عمياء دون مقاومة.
اقرأ/ي أيضًا: