تقول الحكاية: "وجد محام، وهو أب لثمانية أبناء، نفسه في مواجهة رفض دائم في أن يكتري مسكنًا نظرًا لكثرة أبنائه. ذات يوم قال لزوجته أن تحمل معها سبعة أبناء في زيارة لمقبرة المدينة، وذهب هو بصحبة الابن الثامن بحثًا عن كراء بيت. عندما سأله مالك البيت عما إذا كان له أبناء آخرون، رد المحامي (الذي لا ينبغي له قط أن يكذب): "سبعة آخرون، وهم في المقبرة مع أمهم".
تمكن المحامي من الحصول على المسكن، فخاطب ابنه: "ها أنت ترى، لا داعي للكذب، يتعلق الأمر فحسب باستعمال الكلمات المناسبة".. أما ابنه فقد أصبح رجل سياسة فيما بعد".
لو أننا حددنا الكذب تحديدًا منطقيًّا من حيث إنه ما يضاد الحقيقة، فإننا لا نستطيع أن نستنتج أن المحامي قد كذب. فهو لم يقل إلا صدقًا. إنه لم يفعل إلا أن أكد أن أبناءه الآخرين سبعة، وأنهم في المقبرة بصحبة أمّهم. ولكن لم لا نقول إنه رتّب الأمور لكي يسهل عليه الخداع حتى وإن قال صدقًا. ربما ينبغي في هذه الحال أن نبتعد عن المنطق وعن كل طرح نظري لمسألة الكذب.
ليس الكذب مجرد قول محرّف، وإنما هو قول فاعل، إذ يتوجب على الكاذب أن يكون على علم بما يعمل، وأن يرمي من كذبه القيام بفعل، وإلا فهو لا يكذب
كان الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا قد نبه إلى أننا ربما لم يعد يكفينا أن نتساءل: ما هو الكذب؟ وإنما ما الذي يقوم به فعل الكذب؟ وما الذي يرمي إليه؟ ليس الكذب مجرد قول محرّف، وإنما هو قول فاعل، إذ يتوجب على الكاذب أن يكون على علم بما يعمل، وأن يرمي من كذبه القيام بفعل، وإلا فهو لا يكذب. يتعلق الكذب بإخراج القول إلى الفعل، أو بالرغبة في ذلك، وليس بمضمون القول. في هذه الحال لا يعود التعارض بين الصدق والكذب تعارضًا منطقيًا، ولا حتى نظريًّا. إذ إننا لو اكتفينا بهذا التعارض فإن المحامي لم يكذب. فنحن لا يمكننا أن نحكم على قوله بأنه كذب إن نحن حصرنا أنفسنا في النظر إلى فحواه، واقتصرنا على المقول.
لكن ما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن الكذب لا يتعارض فحسب مع الصدق والحقيقة. كان مونتيني قد أشار إلى أن "قفا الحقيقة يتخذ ألف شكل، ويتوزع في حقل لا حدود له". من هنا تعذر التمييز بين الكذب و"جيرانه" المتعددين. الكلمة الإغريقية التي تدل على الكذب تعني في الوقت نفسه الخطأ والمكر والغلط والخداع والتدليس، مثلما تعني الإبداع الشعري، وكلنا يعلم أن "أعذب الشعر أكذبه".
ميز القديس أوغسطين الكذب عن مجرد الوقوع في الغلط، وذلك بالتأكيد على القصدية في فعل الكذب. فالكذب هو الرغبة في خداع الغير، حتى وإن اقتضى الأمر، في بعض الأحيان، قول الحقيقة. يمكن أن يصدر عنا قول خاطئ من غير أن نكذب. لكن بإمكاننا أن نقول الحقيقة بهدف الخداع، أي الكذب. إذ ليس من الكذب أن يصدر عنا الغلط إذا ما كنا نظن أنه صواب. فليس الكذب هو القول الخاطئ، ليس هو الخطأ. يمكننا أن نكذب بقول الحقيقة. الكذب خداع قبل كل شيء، إنه حمل على الاعتقاد.
على هذا النحو فإن محامينا الذي لا شك أن له مهارة في ترتيب الكلام، تمكن بترتيب الأمور أيضًا، ونسج الوقائع، تمكن من أن يوهم نفسه، ويقنع ابنه بأنه لم يكذب، وأن كلامه مطابق لواقع، ربما ليس للواقع، وإنما لواقع مرتب مدروس.
أيكون هذا هو الدرس السياسي الذي لقنه لابنه فأقنعه أن السياسة لياقة وحذق، وأنها ليست في النهاية إلا تهذيبًا للقول، وتمكنًا من استعمال الكلمات المناسبة في محلها، وترتيب الأمور بحيث تتحقق الفعالية ويصل المرء إلى مبتغاه؟